كان لي صديق ظريف لطيف، من أخفّ الناس دماً، وأسرعهم بديهةً، دخلت عليه يوماً فوجدته مهموماً على غير العادة، فسألته: ما بك؟
قال: “باشرب بضهر المعلقة”!
فاجأني الرد، وأبهرني التعبير، فتسَمرتُ في مكاني لحظة، ووصلني المعنى البديع، فانفجرتُ ضاحكاً، ولكني أردت أن أسمع تفسير العبارة منه، فقلت له: ماذا تعني؟
قال: أسوأ الناس حظاً في الدنيا هم من يشربون بظهر الملعقة؛ لأن أمامهم وفرة من الطعام والخيرات، ولكن نصيبهم منه ما يعلق بظهر الملعقة، ويزيد من بلواهم تساقط أثر الطعام المنسكب من الملعقة المقلوبة على ثيابهم؛ فيبدون للناظر كأنهم أكلوا حتى الشبع وفاض الطعام على ثيابهم! فهم محرومون من الطعام، ومحسودون على وفرته في آن واحد!
صورة تخيلية بديعة تفتح زاوية النظر نحو أفراد وشعوب ودول، لديهم الكثير من الموارد والثروات لكنهم يمسكون الملعقة بالقلوب، ويشربون بظهر الملعقة.
بَرَزَت هذه الصورة في ذهني وأنا أرى دولاً تعوم على ثروات، ويعيش معظم سكانها تحت خط الفقر، وتقيم حكوماتها الأفراح والليالي الملاح ويستضيفون لها من الشرق والغرب شباباً يغدقون عليهم الأموال، ويتحدثون في معانٍ إنسانية بديعة يُصدِّرونها للخارج، ويطبقون عكسها على شعوبهم.
والجماهير التي بالكاد تتحصل على ما يسقط من ظهر الملعقة تتراءى لهم أمام الشاشات مظاهر البذخ والترف والاحتفالات الأسطورية، والشعارات الرنانة، والعواطف المتدفقة؛ فمنهم من يصدق أن الأمم تتقدم بالاحتفالات والشعارات، وأن الملعقة المقلوبة من سنين بدأت تعتَدِل، ومنهم من يتحسر على تبديد الثروات وإضاعة الطريق.
في البلاد المنكوبة بالملعقة المقلوبة حفنة يغرفون بالملعقة، وملايين غيرهم من أصحاب الفاقة، نصيبهم من ثروات بلادهم الشرب بظهر الملعقة.