في مثل هذا اليوم 16/ 2/ 1997 توفي فضيلة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة -يرحمه الله- وهذا حوار أجرته معه “المجتمع” قبل وفاته، ونشرته في العدد (1240) بتاريخ 4/ 3/ 1997، ونعيد نشره اليوم في ذكرى وفاته.
لم تكن الكتب السبعون هي نتاج عمره الذي امتد إلى الثمانين فقط بل إن خُلق وعلم فضيلة الشيخ العلامة عبد الفتاح أبو غدة -رحمه الله- تسبقانه قبل كل شيء، فمع أنه العالم المحدِّث والفقيه واللغوي والداعي الممتحن فإنه أيضاً أمام التحقيق في علوم الحديث خاصة والعلوم الإسلامية عامة، مما جعله أستاذاً ونموذجاً متفوقاً لكثير من طلاب العلم والعلماء المعاصرين. وقد كانت قضية العلم في جامعات اليوم وطلاب العلم من بين عدة قضايا دار حولها هذا الحوار مثل موسوعية العلماء بين الإيجابية والسلبية، وأهمية القدوة في حياة العلماء، وآفاق العلاقة بين العالم والحاكم، وتحقيق التراث بين العمل العلمي وفوضى التحقيق وصورة التأليف المعاصر اليوم، وصورة طالب العلم المثلى، ثم منهج تكوين العلماء.
ما رؤيتكم لجامعات العالم الإسلامي بصورة عامة بعد هذه الخبرة الطويلة في التدريس الجامعي؟
– الجامعات اليوم هي معادن الخير اليوم، وفيها كثرة بالغة وتوجه كبير، كثرت فيها الكمية، وضعفت فيها الكيفية، ولكن يأتي من الكمية الكثيرة الخير الكثير أيضاً، فما كل الطلبة على عشق وشوق للعلم، ولو أن كل الطلبة على قدم عالية لكان الناس في خير كثير من كثرة العلماء، ولكن قلة العلماء اليوم ظاهرة بادية.
يرى بعضهم أن هناك جامعات حضارية تتعامل مع قيم حضارية معينة وقد تكمل ما يصيب حضارة ما من نقص أو جمود «جامعة اللاتيران بروما والجامعة العبرية بالقدس التي سبقت قيام “إسرائيل” بعشرين عاماً وغيرهما» هل يمكن أن تقترب جامعة معاصرة من هذا المفهوم؟
– ليس في الجامعات بوجه عام هذا المعنى إلا جامعة الأزهر منذ ثلاثين أو أربعين سنة، أما الآن فقد صارت الجامعة باب ارتزاق وتوظف… فهذا هو السمت الغالب، وقد يخرج من هذا عدد قليل..
هل لكم رأي في قضية تطوير الأزهر إذن؟
– صار للأزهر عشرون سنة وهو متطور، تطوير الأزهر تحويل له عن أصله.. تهجين.
لكننا أيضاً في حاجة للمهندس المسلم والطبيب المسلم؟
– صحيح… لكن على أن يبقى أيضاً الفقيه المسلم المتمكن.. أم نشطبه فلا يخرج فقيهاً، ولا مهندساً؟! المهندس أو الطبيب ينبغي أن يكون فقيهاً طبيباً وأن يكون مهندساً مسلماً، لكن الفقيه يبقى فقيهاً صرفاً ـ لا ألا يعرف غير الفقه، لا.. يكون متمكناً حتى يخدم الطبيب أما إذا خرج هو والطبيب توأمين؟!
هناك أحد الأطباء الذين عرفوا في القرن السابع كان فقيهاً من الفقهاء شرح كتباً من فقه السادة الشافعية، وكان فقيهاً وهو الذي أخرج الدورة الدموية الوسطى، أي هو الذي اكتشفها وهو ابن النفيس، كان فقيهاً ولغوياً وطبيباً وأديباً في حصيلته اللغوية، هكذا كان الناس قديماً، عندهم تنوع في الاختصاص وكان الطب قديماً ـ وحتى الآن في الهند ـ يدرس مع الدراسات الشرعية، لهم إلى جانب دراسة الأصول والفقه والنحو والعربية والتاريخ.. قسم من مناهج التعليم يدرس الطب، ليس الطب المعروف، لكنهم يسمونه الطب اليوناني، الذي يقوم على معالجة الطبيب بالأعشاب للمريض، معالجة قديمة، لأن هذا ليس صعباً عليهم أن يقوموا به في الهند، وهم كما هو معروف أفقه الناس، الفقيه الهندي يُضرب به المثل، فهم من هذه الناحية يدرسون الطب القديم، لذلك فإن الطلاب الشرعيين لهم معرفة بالطب، ليسوا أطباء لكنهم لهم أنس بالطب، وقديماً يكون الرجل المؤرخ والأديب والمحدث والفقيه واللغوي والناقد والبلاغي، فالعلوم متشابكة من حيث هي، يقرب التشابك أو يبعد.
فالجغرافيا مع الحديث متصلة، لكن ليس كصلة الفقه بالحديث، الفقه يلي الحديث في المرتبة الثانية، بعده اللغة، وبعده البلاغة، ثم الجغرافيا، فإذا قابله شيء عن الجغرافيا، فلابد أن يحدثه المحدث، لذلك فإن المحدثين الناقدين عندهم علم جيد بالجغرافيا مثل الإمام النووي والقاضي عياض والحافظ ابن حجر ومن سبقهم، وهذا من تمام الثقافة في الحديث، فلا يصح له ألا يعرف الأماكن المبهمة في الوجود، وقد يختلف الحكم في معرفة لفظه ومكانه من وجه، ولفظه ومكانه من وجه آخر.
إذا انتقلنا إلى قضية التخصص في حياة علماء الأمة، فإننا قد لاحظنا أن الموسوعية هي الأصل في حياة العلماء، هل هناك إمكانية لتخريج مثل هؤلاء العلماء بطريقة معينة من جامعات اليوم؟
– في الجامعة الآن تُسلِّك ولا تُملِّك، تسلك العلم، لكن غالب من يتخرج يظن أنه انتهى به المطاف وحصل على المقصود بتمامه وهو التوظف، فإذا توظف قال للعلم وللمكتبة، هذا فراق بيني وبينك.
كيف تحل هذه المعضلة؟
– أولاً إنهم لا يجدون أساتذة مُعشِّقين، إذا كانوا مع أساتذة محترفين للعلم، فهم يكونون مثلهم، إذا كانوا مع أساتذة يؤدون الدرس ويرغبون في قرع الأجراس حتى يخرجوا، فهذا الطالب سوف يأتي أضعف من أستاذه.
الأساتذة تلهب الطلبة، وبعض الطلبة يلهبون الأساتذة عندما يكون عندهم ذكاء متوقد، وهناك بالفعل بعض الطلبة يشعرون الأساتذة بالإعجاب ويفرح الأساتذة بالفهم الدقيق لما يقولون فهو من اللحظ القلبي.. أما الأمر البيِّن فإن فهمه يمكن حتى عند بعض العجماوات.
برأيكم هل نكتفي لتخريج علماء موسوعيين بتركهـا حـتى يقابل الطالب أستاذاً يحترق للعلم أم أن هناك منهجاً تقترحونه وترونه لتربية وتنشئة شباب الأمة عليه؟
– لا بد أن يكون هناك منهج ملحوظ أو محفوظ في نفوس المدرسين وفي مخطط الدراسة يلحظ منه أن يخرِّج ما نريد، فالأصل في مخطط الدكتوراه أنها شهادة تأتي بمتخصص ولكنها صارت تأتي بموظف! فأنت ترى الدكتور دخل المرحلة جاهلاً متواضعاً وخرج منها دكتوراً متكبراً! لا نقول هنا على الجميع، فهناك عباقرة في العلم، لكن السواد الأعظم هكذا.
صار في الناس استنامة للكسل العقلي الذي صار هو الأصل.. فصار السؤال عن الذي يحقق المكسب المادي أو التوظف، فهذا كاف، وصار أمر البيت أو الرفاهية من المطالب الأساسية: انحرف الأصل، فقد كان الأصل في الإنسان أنه يعيش ليطلب العلم، فصار يعيش ليترِّفه، لا ليرفع العلم، لا بل يترفع عن العلم.
هل للموسوعية من سلبيات؟
– نعم، فيجب ألا يكون الموسوعي خوَّاضاً لكل ما يعرف وما لا يعرف على عادة بعض الناس، إذا صار شيخاً يقول فيما يعرف وما لا يعرف، والناس يسألونه باعتباره شيخاً يسألونه في الطب والسياسة والعلم والتجارة، فباعتباره تشيَّخ فيستحي أن يقول لا أعرف أو أجهل، والناس ضعفاء يظنونه على كل شيء قدير وعليم.
ولذلك فإن الأصل في التخصص العام أو المتنوع هو أن يكون عند الإنسان رقابة فيما يقول، فإذا كان هناك شيء لا يعلمه وقال لا أعلمه زاد علماً وسقى علمه، لأنه دل على أن ما يقوله كان عالماً به، فعدم علمه في هذه المسألة يزيدنا ثقة به في المسألة التي يعلمها، لا ينقصه، ولكن كثيراً من الناس يظن غير ذلك، وبالعكس، إذا قال لا أعلم فمعنى ذلك أنه عالم.
ألا تظن أن ذلك الرضا بالسهل والبسيط والتقاعس عن بذل الجهد يرتبط بما هو عام في العالم الإسلامي؟
– ما في العالم الإسلامي بصورة عامة هو فقد القدوة، فالعالم الإسلامي صورة فيها الضعاف والأقوياء والأغنياء والفقراء والعـلماء، فقدت القدوة الحافزة والمتحركة وكان العالم في القديم قدوة، فكل من يصحبه أو يشاركه أو يراه يتحسن ويصير عنده اندفاع مثله، أو يوقظ في قلبه شجرة المحبة والمعرفة وشجرة الحماسة، شجرة القوة، شجرة الشجاعة، فلما فقدت القدوات صار الناس سواسية.
هل يرتبط افتقاد القدوات بالديكتاتوريات السياسية التي تتحكم في أغلب العالم الإسلامي؟
– كثير منها.. النظم أو الأشخاص أو الظُّلام الذين يحكمون ما يريدون قدوة، لأن القدوة ذروة وهم يحبون أن يكونوا هم ذروة ولو كانوا ذروة الشر، فلا يرون ذروة غير أنفسهم، وهذا يقضي على كل ذروة من أهل الخير، فلذلك يسفرونه أو يسجنونه أو يلطفون موته بحيث إنهم يبقون ذروة، فما يحبون أن تكون ذروة من أهل العلم أو من أهل الفكر، وهذا معروف في التاريخ، وشواهده من الناس الطيبين الذين ذهبت فيهم ذروتهم كثير جداً، إما هاجروا من بلدهم أو هُجِّروا أو صُفُّوا جسدياً.
في هذا الإطار وفي ظل ظاهرة الصحوة الإسلامية وما يقابلها من تحديات: ما هي آفاق العلاقة المنشودة بين العالم والحاكم؟
– الحاكم إذا كان يريد الخير ويجد عالماً يأخذ معه في ربانية السفينة إلى السلامة والإنقاذ يشكره أكثر لأن العالم سند الحاكم، ولكن إذا كان الحاكم ليس راغباً في أن يكون غيره في المقام، والناس إلى الحاكم يميلون بالسيطرة والقوة، وإلى العالم بالحب والأخوة، ففرق كبير بين سيطرة الحاكم بسلطنة الإرهاب، وسلطنة العالم سلطنة المحبة، لذلك تشتد إلى العلماء القلوب أكثر بكثير، ويذهب الحكام ولا يذكرون إلا بالسوء في كثير من الأحيان إذا كانوا أهل غير خير، فالعلماء أثرهم كبير ولنأخذ مثلاً نورالدين شعيب الذي كان يدني العلماء من مجلسه كل يوم ويقرأ الحديث في مجلسه كل يوم، ولما أخذت دمياط من الفرنج وكان في مجلسه عمر بن بدر الموصلي رحمه الله صديقه، فجاء في الحديث حديث مسلسل بالتبسم، أي أن كل من رواه الشيخ وشيخ الشيخ عن النبي ص هذا الحديث لمَّا ورد على لسان النبي تبسَّم والذي حدَّث به من بعده من الصحابة والتابعين تَبسَّم فصار مسلسلاً بالتبسم، فلما جاء هذا الحديث بالتبسم طلب عمر بن بدر الموصلي من الملك نورالدين أن يبتسم حتى يتسلسل الحديث، فقال له لا أتبسم؟ قال لماذا؟ قال كيف أتبسم ودمياط محاصرة بالفرنج؟!
«تأثر الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ـ رحمه الله ـ بموقف الرواية وسال دمعه»، لم يبتسم لأنه يغار على البلد أن يكون الكفار الصليبيون فيه، وبعد ثمانية عشر يوماً فرج الله عنهم وانتصروا على الصليبيين واستردوا دمياط فقال لصاحبه وبعد أن كان قد أجل حديث التبسم ـ الآن حدِّث حديث التبسم.
فخير العلماء الذين يكونون عند الحكام الصالحين وخير الحكام الذين يدنون العلماء، أما علماء السلاطين الذين يكونون في ركب السلطان لا يأمرونه بمعروف ولا ينهونه عن منكر، هؤلاء ليسوا في الحظيرة، وما نتحدث عنهم لكن العلماء الصالحين ينبغي أن يؤازروا الحاكم الصالح، والحاكم الصالح يسعد كل السعادة إذا كان لديه علماء صالحون.
هل توافر عند الأمة في تاريخها فترة كان فيها العلماء في وئام مع الحكام فصارت ظاهرة يمكن أن يرصدها التراقب؟
– في الحروب الصليبية بذل نور الدين وصلاح الدين الأيوبي حاربوا وجاهدوا وقاتلوا واستبسلوا ولكن كان هناك القاضي الفاضل، قالوا كان النصر بكتابات القاضي الفاضل ورأيه أكثر من النصر بالجهد والعساكر، فالعالم إذا كان عزيزاً حصيفاً واعياً مدركاً على صلاح وتقوى تكون له نورانية في رأيه، وثقله في علمه، واجتهاده، فينفع، فهو ميزان الخير، لذلك فالعلماء الأقدمون هم سادات الأمة وهم قياداتها، لكن بعد ذلك لما ضعفت القيادات وضعف العلماء ضعف الناس، فذهبت القيادة وزاد الاستعمار في تكريه هذه القيادة.
ما الصورة التي ترونها واجبة للعلاقة بين الحكام والعلماء في العصر الحاضر هل يمكن اعتبار الديمقراطية شكلاً معاصراً يحصل من خلاله كل من الحاكم والمحكوم على حقوقه ويعرف واجباته؟
– قد يكون وراء لفظ الديمقراطية مُستَّرات ومخدرات، فبعض الألفاظ تنقل فيكون وراءها معان مخيفة، ولذلك إذا كان اللفظ عربياً، درينا نهايته وسعته وضيقه، وما يصدر من ورائه، ولكن إذا كان اللفظ منقولاً فما ندري قد يكون وراءه عدم الاعتماد الله عز وجل، وقد يكون من ورائه أن التشريع للأمة والحكم للأمة وإرادتها، وإرادة الشعب، فمثل هذه الألفاظ قد يختفي وراءها معان غير إسلامية، فلذلك ينبغي التحفظ منها لأنها قد تخفى وتستعمل عند الآخرين على أن الحكم للشعب، فالحكم هناك فقد صلته بالله، فإذا جئنا فاستعملناه على التمادي أو على الجهل أو ما إلى ذلك، ينقطع المعنى الشرعي الإسلامي بأن الحكم لله : «إن الحكم إلا لله» ويتصل على معنى ديمقراطي في الدول الرأسمالية أو الشيوعية.
فهذه الألفاظ قد تصحب معها معانٍ غير إسلامية، فما ندريها، فعندما نقول ديمقراطي قد يكون هذا اللفظ مستنداً إلى معنى عرفي عند غير المسلمين، فيحمل المعنى العرفي هناك، ثم ينطبق في نفوس الناس، ونحن نفهم الألفاظ الإسلامية العربية فنفهم ملاءمة اللفظ من عدمه، صحة اللفظ في مدلوله أم خطئه، لكن مثل هذه الألفاظ قد تحمل معاني لا يقرها الشرع، والتجنب لها أولى.
رغم أن الدلالة التي تحملها هذه الكلمات في محيطنا وعالمنا قد لا تحمل الدلالة الأصلية هناك؟
– دلالتها في محيطنا بعد التنبيه والتحذير والتبصير، ولكن في بعض الأحيان تأتي بدلالتها وأمراضها هناك… ما لا يشتبه أولى مما يشتبه.
ما الصورة التي يجب أن يكون عليها العالم مع الحاكم الآن في وضع المؤسسات الدستورية المعاصرة، وهو ما تبقى من السؤال السابق؟
– هذا يرجع للحاكم إذا كان عاقلاً حصيفاً أميناً يريد خدمة الناس وإرضاء الله عز وجل يقرِّب العلماء الصالحين العقلاء الناصحين ويستفيد منهم ويكرمهم ويكرمونه ويقدرهم ويقدرونه فينفع الناس بهذا مثل ما يكون ربابنة السفينة متفقين ومتعاونين مثل ربابنة الطائرة فيكشفون المخاطر قبل الوقوع فيها.
وكذلك الحاكم إذا كان العلماء معه يحملون المسؤولية ويريدون خدمة الأمة والدين والإسلام، وهو يرى نفسه خادماً للأمة وليس متسلطاً، فهذا هو المقياس الصحيح، فينبغي أن يقتربوا من الحاكم ويساعدوه، لأن الحكم ليس بالشخص الواحد، بل يحتاج لكل الكفايات: المهندس والطبيب والشاعر والصحفي والكهربائي والنجار والأديب والعسكري حتى تتحقق الكفاية للأمة، ما يمكن أن يكون الحاكم وحده هو الفيلسوف أو عاقل العقلاء، الفرد وحده ماذا يفعل؟ لابد من أعوان… «إن الله يبعث على رأس كل مائة عام لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها» من يجدد أي مجموعة، ليس واحداً، أي جماعات قضاة، حكام، وزراء، نبلاء مهندسين، أطباء، محامين، من كل الكفايات العلمية حتى تمشي الحياة الحضارية، لأن الحياة مكونة من كل هذه الحاجات، فلو فرضنا أننا فقدنا الأطباء أو المهندسين أو الكتاب فكيف يكون المجتمع الذي به عشرون عالماً ولكن ليس فيه كتاب يكتبون دفاعاً أو إقناعاً؟!
لا بد من الكفايات الكثيرة التي تكون في حوزة الحاكم ويكون هو متوجهاً إليها بالصدق وتكون هي متعاونة معه بالصدق… فيكون خير كثير.
هل يكون دخول العلماء في المجالس النيابية خطوة من الصورة التي يجب أن تكون للعلاقة بين الحاكم والعالم.. كما حدث في عدة بلدان إسلامية؟
– هذا يختلف، فدخول هذه المجالس قد يكون بغير اختيار الحاكم، فقد يكون أكره على هذا لأنه وجد هذا أقل مصاباً عليه من عدم دخولهم، ينبغي أن يكون الدخول هذا بقلب وقالب وروح… أن تكون هناك غاية في هذا الدخول أن يكون الداخلون حاملي مسؤولية، ليس تسكيناً لهم أو بإرضاء أو باعتبار دخول مقابلهم أناس لا دينيين أو أناس علمانيين أو شيوعيين أو من هذه المسالك الضالة المنحرفة، لا بل يكون مقصود دخولهم لا من باب الإرضاء أو السياسة التجارية، لا بل سياسة للأمة خلقاً وديناً وسلوكاً.
هناك من يرى تحقيق كتب التراث خطوة تحتاج إلى مراجعة.. ويرى التحقيق تجارة وليس عملاً علمياً، وربما كان ذلك ناتجاً عن فوضى التحقيق دون تثبت علمي جاد…
– كان للكتب سياج من الخوف فكسر هذا السياج واندلق إلى ما يسمونه التحقيق بغير دقة، كان الناس أول الأمر يتهيبون أن يؤلفوا كتاباً خوفاً من الخطأ وخجلاً، اليوم ما بقي هناك خجل من الخطأ أو من الجهل أو خجل من سرقة العلم، فصار هذا تجارة، وعندما يكثر الشيء الفاسد يهون وقعه على الناس، فإن هذا المقام الرفيع يدخله كل واغل ووالغ على السواء، فيظن أحدهم أنه درس لغة عربية أو يظن أنه درس فقهاً فيدخل في الفقه ويدخل في الأصول ويدخل في التفسير.
والأصل في كل خلية توزن من العلماء الأقدمين أنها تمر بدقة ومحاسبة شديدة ولذلك فإن هذا الكلام الذي دوَّنه الأقدمون من قبل مائتي أو ثلاثمائة سنة أو ما قبل ذلك إلى أول الإسلام: كل كلمة دونت صار عليها نقاش وبحث وتعليق واستدراك وحاشية وتقرير ومناقشة ثم سُجِّلت، ويأتي بعد ذلك قوم آخرون يتابعون الدق على هذه الكلمة، ولذلك فإن هذه الكلمة مدقوقة دقاً شديداً عميقاً، ولذلك تجدها مثل قطعة الفيروز في موضعها من التاج، لأنها مدروسة: هذا أحسن، هذا فيه كذا، ليس هذا محله، هذا قد يخرجه كذا، هذا ليس تاماً، وهكذا حتى تصاغ الحلية.
أما اليوم فهو كلام جرائد يخبط خبط عشواء، فقد زالت هيبة القلم وكان العلم مهيباً وأصبح العلم مسيراً، وهذه مشكلة، وخف الوازع الديني من الخطأ ومن الخجل، فكثير من الناس يتسلطون على كتاب لواحد من المشتغلين بالعلم حقيقة وينسبونه لأنفسهم ويأخذون هذه العبارات «نحن صححنا ما وقع فيه غيرنا من أخطاء»، وينقلون على ما وقع فيه هذا العالم من خطأ وهم لا يدرون ويقولون صححنا!
ما رأيكم في صورة التأليف المعاصر اليوم؟
– إن المكتبة اليوم في السنوات العشر الأخيرة اندلق إليها من الكتب ما لا يحصى كثرة من كثرة ما كتب، كل من اشتهى شيئاً يكتبه ويطبعه، وكان قديماً لا يطبع في السُّنة إلا مائتا كتاب، ثلاثمائة كتاب، تختار وتدرس وتقدم للعلماء الكبار يصححونها، وكان هناك مصححون في مصر مشهورون بالدقة والأناة مثل: الشيخ نصر الهوريني والشيخ قطة العدوي، مثل الدسوقي والغمراوي هؤلاء يخرج الكتاب من عندهم ميزاناً، فإذا ما فهمت العبارة تعيب نفسك ولا تغلط الكتاب، تعيد حتى تفهم، لابد أن تنزل فهمك وتلزمه على الكتاب لأن الكلام صحيح.
فإذا كان في الكلام خطأ يدركونه يضعون على عادته القديمة (7) فوق الكلام الخطأ أو المشتبه فيه أو يصوبون الأخطاء في صفحات قد تصل إلى عشرين… إضافة إلى فهرس للأعلام وفهرس للأخطاء، المستوى الثقافي في هبوط في حقيقته لأنه كثر التلقي من القرطاس، وكان العلماء يتلقون من العلماء، فلما صاروا يتلقون من القرطاس أي الدراسة الورقية الصحفية ـ يقرؤون خطأ لا أحد يرده، يفهم من يفهم خطأ فلا يصحح له أحد، يكون الكلام مشلولاً فلا ينبهه أحد، فإذا تعلم خطأ يكتب خطأ.
أما الأولون فقد كانوا يدرسون بين يدي العالم عشر سنين أو خمس سنين يركزون العلم بالتلقي، فهذا التلقي يصحح وينبه ويعرف ويؤسس فيخرج الإنسان بملكة وبميزان صحيح، فيصير عنده حس ومرهف، عندما تمر به كلمة خطأ يعطى إشارة بأن هناك شيئاً هنا، حساسية خاصة بالغلط نحوياً أو علمياً.
الآن لا يوجد هذا لأنه هكذا تعلَّم، فمن السبب الرئيسي للضعف كثيرة الثقافة الورقية هذه القرطاسية، ولذلك قال الأقدمون لا تأخذ العلم عن صحفي ولا القرآن عن مصحفي، «لأن من تلقى القرآن من المصحف ولم يسمعه من شيخ يأتي إلى سورة من السور فيقرأ «المص» المص كلمة واحدة، وهي «ألف لام ميم صاد».
عرفنا المصحفي.. ألا تحددون المقصود من الصحفي والحذر منه لما في ذلك من حساسية لمهنتنا المعاصرة؟
– الصحفي الذي يتلقى من الصحف.
لعلكم تقصدون من الكتب.
– هذه هي المقصودة، الأوراق، فليس مقصوداً الصحفي المحترف، لكن المقصود هو المتعلم الذي يشيِّخ الصحيفة: شيخه الصحيفة، وليس العالم.
هل ترون أنظمة الدراسات العليا الآن في الجامعات المختلفة تعوض الصورة المفقودة للتعلم في آليات وأنظمة تعليمية معاصرة لا تخرج علماء؟
– إلى حد ما، إذا وجد اشتغال من الطالب بالتهيؤ والذكاء والقدرة، والمدرس كان مخلصاً يجب أن يؤسس خلائق صالحين عالمين، فإن هذا ممكن، لكنه قليل.
هل يمكننا أن نطرح -من خلال تجاربك وإبحارك العلمي- صورة طالب العلم المثلى التي تكوِّن علماء في الأمة في المجالات المختلفة؟
– الأصل في هذا أن يتحد العلماء: أولاً أن يكون هو خيراً في نفسه يبتغي الصلاح والتقوى من التعلم أن يكون عنده نفسية خيِّرة فيها الإخلاص والتواضع والخلاص من الجهل، وهذه كلها نيات تدخل في العبادة يؤجر عليها ويثاب لا تكون عنده نية الارتزاق أو التوظف أو الاعتلاء على الناس أو المزاحمة في الشهادات، فإذا كان عنده نفسية طيبة ومقاصد صحيحة سليمة ينبغي أن يتقصد الشيوخ العالمين أو الأساتذة العلماء الموثوقين الحافزين بعلمهم.
هناك عالم إذا سألته أجابك مثل الآلة فقط، وهناك عالم تسأله فيشتعل في قلبك خدمة حب العلم من حديثه وبيانه، فيكون هذا العالم أنفع للمتعلم من ذاك، فينبغي أن يتقصد العلماء، الذين فيهم جذوة العلم من الإتقان من الضبط من اليقظة، من عدم التساهل في العلم، من عدم التساهل في العمل.. كل هذا يأتي بالمتانة، أما إذا كان يتساهل في الضبط «زي بعضه، معلهش».
ينبغي للطالب أن يتزود من العلماء الذين فيهم قدوة، هذا يفيده في ناحية الحماسة الدينية، يتأسى به، وهذا عنده حماسة علمية، هذا عنده اهتمام بالحديث فقط هذا عنده اهتمام بالأصول، بالتفسير.. فهو يدخل عليهم جميعاً ويقطف من ثمارهم ويجمع في نفسه فيكون طعماً جديداً لأنه أخذ من ألوان من ثمار مختلفة، ولذلك يكون طعمه في بعض الأحيان أطيب من طعم بعض أساتذته، لأن أستاذه كان ذا علم أو علمين، لكنه صاحب عشرة علوم، ينتفع الناس به أكثر لما عنده من حماسة وصبر على مخالطة الناس.
لذلك إذا كان طالب العلم في تأسيسه صالحاً، وفي نيته صالحاً، وتوخى العلماء في أي فن كان: شرعياً أو كونياً أو اجتماعياً، فإنه يخرج صالحاً.
فيتعلم من أستاذه الأمانة والتقوى والصبر واليقظة والدقة والمتانة وعدم التساهل في العلم، فما الذي يجعل الغربي دقيقاً والشرقي «سبهللي»؟ الغربي يتمسك بالدقة فيبني عليها: دقة وراء دقة تأتي بالعجائب.. وأما نحن فإن التساهل وراء التساهل يأتي بالخرائب!
أنتم هنا ترون إمكانية الاستفادة من الحضارة الغربية إذن؟
– طبعاً نستفيد، لكننا قدمنا لهم وتخلفنا فأخذوا الطعام وقالوا ارجعوا ما هو بطعامكم، أخذوا ما قدمناه نحن.
قد نرجع قليلاً إلى فكرة البحث عن منهج تكوين العلماء؟
– النية الصالحة وتخير الأساتذة والتفرغ وهو ألا يشتغل قلبه بغـير العـلم، ولا بد من الصبر على لألواء الحياة في أولها: من لم تكن له بداية محرقـة لم تكن له نهاية مشرقة… لابد أن يكون عنده احتراق العلم، منهمك، مشغول لكـن بعد التمكن ـ بعد قليل ـ يصـبح الـعلم فيه كأنه فطرة فيفيض بالعلم ويمكن بعد ذلك أن تأتي له الراحة أو السعة في المال وجل ربنا أن يعامل العـبد نقداً فيجـازيـه نسيئة.. فإذا خدم الدين صدقاً ووفاء وأمـانـة وإخـلاصاً، فـإن ربـنا لا يـضيع عمل عامل فيقابله بالتوفيق والغنى واليسـار والتكـريم والثقة بالعالم أكبر من ملك الدنيا، يصبح كلامه حجة بعد كلام الله وكلام الرسول، وهذا ثمن غال جداً، والناس يلتزمون بقوله، يسيرون وراء كلمته، وهذا شيء عجيب لو تفكر الإنسان فيه، ثم بعد ذلك عجب عليه المتابعة فلا يظن أنه حيث درس وانتهى في مرحلة معينة بأن هذا يكفي.. فالمحبرة إلى المقبرة كما قال الإمام أحمد.