من الأفكار التجديدية التي طرحها د. عبدالرزاق مقري، رئيس حركة مجتمع السِّلم الجزائرية، الأمين العام لمنتدى كوالالمبور للفكر والحضارة، فكرة تحدِّي عبور الفكرة الإسلامية من الصحوة على مستوى خطِّ المجتمع إلى النهضة على مستوى خطِّ الدولة، ومنها إلى صناعة النهضة وبناء الحضارة، كاستحقاقٍ تاريخي سُنني للاستئناف الحضاري للأمة الإسلامية من جديد، وذلك ضمن برنامج «تحدِّي العبور» الذي تمَّ بثُّه خلال شهر رمضان عام 2020م في 24 حلقة، والذي تناول تطورات «الفكرة الإسلامية» على مستوى الأفراد والتنظيمات والمجتمعات والدول، برؤيةٍ تفاؤليةٍ تتجاوز المآسي التي تعرَّضت لها الحركة الإسلامية، وحالات الانكسار التي تعرَّضت لها الأمة الإسلامية.
والفكرة المركزية لهذه الرؤية، هي: العبور بالمشروع الإسلامي إلى الدولة، ومنها إلى النهضة والحضارة، وهي عملية صعبةٌ وخطيرة، تتطلَّب تفكيراً عميقاً في المقاربات والسلوكيات والممارسات، ومنها التفريق بين «دائرة الهداية» الدعوية و«دائرة القيادة» السياسية، التي تلزمنا بواجب الإصلاح الحقيقي الجذري والشامل بلا مهادنة مع الباطل والفساد، وهو الإصلاح الذي يستهدف الشعوب والأنظمة ضمن منهج أصيل، عنوانه المقاومة السياسية من أجل التصالح بين الإسلام ودوله، اغتناماً للفرص التي تصنعها موازين القوة، كما حدث في مختلف تجارب الانتقال الديمقراطي في العالم، التي لا تخرج عن أحد مسارين كبيرين، هما: إمَّا التوافقات وإما الثورات.
ومن المقاربات الحاملة لتحدِّي العبور مقاربة التخصص الوظيفي، وفقه إدارة مجالات العمل الأساسية للحركة الإسلامية، خاصة في التمييز بين الوظيفة الدعوية والوظيفة السياسية في بُعديهما الوظيفي والرسالي، كما تتضمَّن كيفيات إدارة وقيادة الوظائف المجتمعية الأخرى، التي تتركَّز في حوامل قانونية عبر شبكات منظمات المجتمع المدني، وهو الخط الإستراتيجي الذي يعين على عبور الفكرة الإسلامية إلى الدولة عبر نشر الفكرة في المجتمع، وزرع القيم والحفاظ على الهوية وصناعة الرأي العام فيه، وحمايتها من السُّقوط عند استقرارها في الدولة.
تحدِّي عبور الفكرة الإسلامية من المجتمع إلى الدولة، ودراسة هذا التحدِّي من زاوية فكرية لصيقة بالتجربة الواقعية والعملية يدخل ضمن تطوُّر الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، الذي يُعتبر د. مقري أحد رواده ومنظِّريه، بحيث يكشف عن الواقع الجديد الذي وجد المشروع الإسلامي نفسه فيه، وهو غير الواقع الذي تأسَّست فيه الحركة الإسلامية المعاصرة في القرن الماضي في «عصر الصحوة»، وهو العصر الذي تركَّزت فيه جهود العلماء والدعاة والمجدِّدين في «الإحياء والتجديد» الإسلامي على واجب «فقه الدعوة»، والتمكين للدِّين على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع، وهي النجاحات الإستراتيجية الكبيرة التي تحقَّقت، مثل: إعادة الأمة إلى الاعتزاز بدينها وهويتها وأبعادها التاريخية والحضارية.
لقد دعا د. مقري إلى ضرورات التجديد والتطوير لأداءات الحركة الإسلامية منذ عقود، وفصَّل ذلك في كتابه «البيت الحمسي.. مسارات التجديد الوظيفي للعمل الإسلامي» عام 2013م، الذي يضمُّ عصارة التجربة الطويلة الممتدة في عمق تاريخ الحركة المعاصر منذ سبعينيات القرن الماضي كدليل تطويري لأي حركة إسلامية، برؤية جديدة وجريئة في تقسيم وظائف العمل الأساسية، والعلاقة بينها، وكيفيات تشجيع مسارات التمييز والتخصُّص الوظيفي، ثم تحديد الرؤى والمقاربات والفضاءات والآليات التي تبعث الحياة فيها والتجديد لها.
يقول في هذا الكتاب: ومهما بلغت الاجتهادات في مجال الفكر والدعوة والمجتمع المدني، لا يمكن للمشروع أن يتحوَّل إلى نهضةٍ شاملة إنْ لم يصل إلى الحكم من خلال الوظيفة السياسية، التي تحوِّل الفكرة إلى رؤية رسمية يجسدها الحكام قانونياً، ويسخِّرون لها مؤسسات الدولة وكفاءات الأمة وميزانيات الحكومات.
إنَّ قدَر الفكرة الإسلامية -التي تتناغم مع الطبيعة الدستورية والقانونية للإسلام- هو الوصول إلى الدولة والنهضة والحضارة وأستاذية العالم؛ {حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه}(الأنفال: 39)، ضمن السيرورة السُّننية النَّصية للتجديد على رأس كل مائة سنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله يبعث لهذه الأمَّة على رأس كل مائة سنة مَن يجدِّد لها أمر دينها»، وضمن الصيرورة التاريخية لحتمية الاستئناف الحضاري للأمة من جديد، وذلك لخصوصية هذه «الفكرة الدينية» التي لا تتعرَّضُ للسُّقوط الكلِّي في غياهب ما بعد الحضارة.
ود. مقري إذ يتقدَّم بهذه النظرة التجديدية للمشروع الإسلامي الحضاري إنما هو امتدادٌ وتناغمٌ مع فيلسوف الحضارة في العصر الحديث مالك بن نبي (1905 – 1973م)، إذ يقول في إحدى حواراته عام 1971م: «إنَّ المشكل الرئيس –بل أمّ المشكلات– التي يواجهها العالم الإسلامي هي مشكلة الحضارة، وكيف تدخل الشعوب الإسلامية في دورة حضارية جديدة، وكيف تعود الشعوب الإسلامية التي خرجت من حلبة التاريخ لدورة حضارية جديدة.
وهو بذلك يرى أنَّ مسيرة الأمم والجماعات تخضع لنظامٍ دوريٍّ، وفق سنن وقوانين كونية واجتماعية وتاريخية، على اعتبار أنَّ التاريخ كتلة من السُّنن والنواميس الإلهية لا بدَّ من استيعابها وتمثُّلها والانسجام معها، وهي التي لا تحابي أحداً، كما قال تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62)، فلا يمكن التصديق –في حقِّ الفكرة الإسلامية– بالخروج الكلِّي لها من الدورة الحضارية بشكلٍ نهائيٍّ، والخلود في مرحلة ما بعد الحضارة، لذلك الحِفظ الإلهي للمادة الخام للحضارة الإسلامية، وهو الوحي، في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9).
فسقوط الحضارة الإسلامية ثم الدولة الإسلامية رسمياً عام 1924م لا يعني السُّقوط الكلِّي لكلِّ عناصرها، لبقاء «الفكرة الإسلامية» على مستوى الفرد والمجتمع، وهو ما اشتغلت عليه الحركة الإسلامية في القرن الماضي، رغم المحاولات الضَّارية للحركة الاستدمارية والاستشراقية التي اجتاحت العالم الإسلامي في العصر الحديث للقضاء عليها عبر المسخ الثقافي والاستلاب الحضاري، ومحاولات تدجين عناصر الهوية والانتماء، كالدِّين واللغة والتاريخ والتقاليد.
ويرى د. مقري أنَّ شمولية الفكرة الإسلامية تقتضي من العاملين لها الانخراط في الشَّأن العام، والمشاركة السياسية الواسعة، والتدافع المرير في ساحات العمل السياسي من أجل العبور بهذا المشروع إلى الدولة والحضارة، وهو ما انجذبت إليه الحركة الإسلامية تلقائياً، ففُرض عليها واجبٌ لصيقٌ وفِقْهٌ جديد، وهو «فقه الدولة» ضمن فكر ونُظُم وثقافة وأدوات جديدة، ذلك أنَّ العبور إلى الحضارة يمرُّ حتماً -وكشرط أساسيّ- على مرحلة العبور إلى الدولة.
وهذا هو الإطار العام لحتمية الذهاب إلى هذه الفكرة التجديدية، إذ إنَّ المشكلة الأساسية للحركات الإسلامية اليوم هو عجزها عن العبور إلى الدولة، وأنها -بإرادتها أو بغير إرادتها- تحوَّلت إلى أحزاب وقوى سياسية تسعى إلى الوصول إلى الحكم، وهو الملمح الأساسي لها في مخيال الرأي العام، ولكنها لم تجد إلى ذلك سبيلاً رغم طول مسيرتها وتنوُّع تجربتها، ويرجع السبب في ذلك إلى حالات الضعف والترهُّل وعدم القدرة على المواءمة بين قيم الدِّين وأدوات الدُّنيا في السَّير بهذا المشروع إلى قدَره المحتوم، وهو الشهود الحضاري، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (البقرة: 143).
ولذلك، فإنه من أولى أولويات الحركة الإسلامية المعاصرة، وضمن هذا المخاض العسير لولادة وإعادة بعث وتأسيس من جديد في هذا المنعطف التاريخي لها، هو موضوع التجديد فيما تشتغل عليه فعلياً، وهو الإبداع في مقاربة العبور بالفكرة الإسلامية من المجتمع (الصحوة) إلى الدولة (النهضة)، وهذا الذي نقصد به حتمية الالتقاء بين الصيرورة التاريخية لقرن الصحوة الماضي مع الحقيقة النصِّية المتعلقة بحديث التجديد على رأس كل مائة سنة من أجل العبور إلى قرن النهضة القادم.