الراحة النفسية أحد آمال الإنسان في هذه الدنيا يبحث عنها في كل مكان أحياناً يسلك الطريق الصحيح، وكثيراً ما يسلك الطريق الخاطئ، وأكثر الأدلة وضوحاً على ذلك ما نراه ونشاهده من آثار الأزمات النفسية التي قد تخرج بالإنسان من العقل إلى الجنون أو بعض درجاته.
قد تسأل شخصاً: لماذا أنت متضايق؟ فيعجز عن الإجابة ويقف حائراً لا يدري بم يجيبك ولا بم يجيب نفسه، إن أسباب السعادة بين يديه لا يشتكي فقراً أو مرضاً أو بطالة، ومع ذلك يحمل هموماً كثيرة ولا يشعر بالراحة، بينما يدرك تماماً أن هناك من هم أقل منه بكل المقاييس لكنهم أسعد منه وأكثر ارتياحاً.
أحب أن أؤكد خطورة الهم وما يسببه من آلام تنقلب معها الحياة إلى جحيم وتفقد كل متعة طعمها، وهو، كما قيل، أشد جنود الله مقارنة بغيره، ولذلك كثيراً ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله منه.
وإذا أردنا أن نفكر سوياً في أسباب الهم: نجد أن هناك مقداراً من الحياة الطبيعية لا بد من توافره، فالإنسان، كما يقولون، مدني بطبعه، وحاجته إلى الأسرة الصغيرة والكبيرة ينتمي إليها وتمده بالرحمة والتعاطف والود ويبادلها حباً بحب ووداً بود.
ويعد افتقاد التواصل بين الإنسان وأسرته بسبب الغربة أو بسبب الجفاء أحد منغصات الحياة وأسباب تراكم الهموم، ومهما كان للإنسان أصدقاء مقربون مخلصون إلا أن حاجته للأسرة لا يسدها أحد.
أحد المزعجات هو مستقبل الأبناء الذي يشغل كثيراً من الناس من تكاليف الدراسة ونوعها وما يترتب عليها من وجاهة اجتماعية وعوائد مادية، والسؤال الأهم: كيف أحافظ على فطرة أبنائي من التلوث؟ كيف أحقق لهم التوازن النفسي والاجتماعي؟ كيف أحافظ على دينهم ليعيشوا سعداء بارين بوالديهم نافعين لأنفسهم ولمن حولهم؟ ما قدرات أبنائي ورغباتهم؟ وكيف أوائم بينهما؟ أما الثروة والمجد الذي أفكر في تركه لهم لينعموا به في حياتي وبعد مماتي فأمر محمود ومطلوب شرعاً، لكنْ هناك ما هو أهم منه؛ أن أعلمهم كيف يكسبون الأموال بشرف، وكيف يحافظون عليها، وكيف ينمونها، لقد رأينا كثيرين عبروا من الفقر للغنى بل للثراء والجاه العريض، كما رأينا من انتقل من الغنى إلى الفقر، ووجهتنا في سبيل تأمين مستقبل أولادنا {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (النساء: 9).
وقد حدثني أحدهم أن زوجته أخبرته بحملها في طفلهما الثالث وأنه شعر بانزعاج، وهمّ ساعة أن تلقى الخبر، إن حياة الأسرة كانت تسير بشكل طبيعي مع قدر ملائم من الحياة الكريمة، طفل ثالث معناه زيادة الأعباء المعيشية، ولعل كثيرين يشاركون صاحبنا الرأي وغابت عنا إحدى الحقائق الكبرى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (هود: 6)، على الله وليس على الوالدين، بل إن كثيراً من الأسر لم تعرف زيادة الدخل وتحقق الوفرة إلا بعد إنجاب أحد أبنائها لعل رزقه أوسع من رزق إخوته ووالديه، وهذا لا يعني أن ننجب لأن الله تعالى تكفل بأرزاقنا وأرزاق أبنائنا، فكل مولود يحتاج إلى تربية وجهد في الحفاظ على الفطرة، وهذا أمر تتفاوت فيه قدرات الناس.
أحد الهموم المزعجة مسألة الأرزاق وارتباط الناس بالوظائف وانتظار الراتب جعل عدداً منهم ينسى أن الله عز وجل هو الرزاق ذو القوة المتين، وتصور هؤلاء أن فصله من العمل يعني انقطاع رزقه، ومع ما أصاب الاقتصاد العالمي وما يصيبه الآن تعزز هذا المفهوم، فقد انتشرت البطالة وتوقفت أعمال كثيرة نتج عنها تسريح أعداد كبيرة من الأيدي العاملة.
طوال عمر البشرية تصيب بعض الأعمال والمهن الكساد، بل تتوقف كلياً، وتنشأ مهن وأعمال أخرى لم تكن موجودة من قبل، طوال عمر البشرية تصيبها أزمات طاحنة بسبب كوارث أو حروب، لكن قافلة الحياة تمضي على أي حال، والعاقل هو الذي يتعلم من هذه الأزمات فيتجنبها ما استطاع ويستفيد منها قدر ما يستطيع.
علاجات نبوية
قدمت السنة النبوية علاجاً لمشكلة الهم، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، يُقَالُ لَهُ: أَبُو أُمَامَةَ، فَقَالَ: «يَا أُمَامَةَ، مَا لِي أَرَاكَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ؟»، قَالَ: هُمُومٌ لَزِمَتْنِي، وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «أَفَلَا أُعَلِّمُكَ كَلَامًا إِذَا أَنْتَ قُلْتَهُ أَذْهَبَ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّكَ، وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ؟»، قَالَ: قُلْتُ: بَلَى، يَا رَسُولَ، قَالَ: ” قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ، وَقَهْرِ الرِّجَالِ”، قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ، فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمِّي، وَقَضَى عَنِّي دَيْنِي(1)، هل نذهب إلى المسجد بنية انشراح الصدر لتكون الدقائق التي نجلسها قبل الصلاة وبعدها نوع من ترميم الروح نتعلق فيها بالله ونشد من أزر هذه النفس المتعبة نتزود بزاد التقوى وزاد القوة الروحية.
إن هموم الدنيا كثير ومتشعبة على قدر تشعب ما يشغل الإنسان والذي يريحنا من هذه الأعباء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ آخِرَتِهِ، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ وَأَحْوَالُ الدُّنْيَا لَمْ يُبَالِ فِي أَيِّ وَادٍ مِنْهَا وَقَعَ» (مسند ابن أبي شيبة)، الهم الذي ينبغي أن يشغل المسلم هو ماذا سيقول لربه إذا سأله عن نعمه جل جلاله عليه وعن تعامل العبد معها شكراً بالقلب واللسان والجوارح أو كفراناً بالقلب واللسان والجوارح، وعن حدود الله تعالى والوقوف عندها، فإذا كان توكل العبد على ربه حق التوكل وكان همه رضوان الله تعالى جمع الله عز وجل شمله وتعامل مع هذه الهموم كأنها عارض سيزول وسيلهمه الله تعالى رشده ليخرج من مآزق الحياة، وسيعلم أن هذه طبيعة الدنيا فلا يفاجأ بما لا يحب ولا يجزع مما يكره، وللفقه في الدين أثره في دفع الهم، والفقه هنا أعم من يكون معرفة الأحكام العملية، بل فهم طبيعة الحياة وطبيعة الإنسان مما يعينه على إدراك المخارج من الهموم.
ما الذي أهمك؟
تتعدد هموم الناس على قدر هممهم وارتباطهم بالله تعالى، فمن الناس من همه الحد الأدنى من الحياة ومنهم من لا يقنع بما دون النجوم، عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: “بَيْنَا رَجُلٌ فِي بُسْتَانٍ بِمِصْرٍ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ جَالِسٌ مَهْمُومٌ حَزِينٌ يَنْكُثُ فِي الْأَرْضِ، إِذْ رَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا صَاحِبُ مِسْحَاةٍ [فأس] قَائِمٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ صَاحِبُ الْمِسْحَاةِ: مَا لِي أَرَاكَ مَهْمُومًا حَزِينًا؟ فَكَأَنَّهُ ازْدَرَاهُ، فَقَالَ: لَا شَيْءَ، فَقَالَ صَاحِبُ الْمِسْحَاةِ: إِنْ يَكُنْ لِلدُّنْيَا فَالدُّنْيَا عَرَضٌ حَاضِرٌ يَأْكُلُ مِنْهُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَإِنَّ الْآخِرَةَ أَجَلٌ صَادِقٌ يَحْكُمُ فِيهِ مَلِكٌ قَادِرٌ يَفْصِلُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، حَتَّى ذَكَرَ أَنَّ لَهَا مَفَاصِلَ مِثْلَ مَفَاصِلِ اللَّحْمِ، مَنْ أَخْطَأَ مِنْهَا شَيْئًا أَخْطَأَ الْحَقَّ، فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ قَالَ: «اهْتِمَامِي بِمَا فِيهِ الْمُسْلِمُونَ»، قَالَ: فَقَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ سَيُنْجِيكَ بِشَفَقَتِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَسَلْ، مَنْ ذَا الَّذِي سَأَلَ اللَّهَ فَلَمْ يُعْطِهِ؟ وَدَعَا اللَّهَ فَلَمْ يُجِبْهُ؟ وَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَكْفِهِ؟ وَوَثِقَ بِهِ، فَلَمْ يُنْجِهِ؟ قَالَ: ” فَطَفِقْتُ، أَقُولُ: «اللَّهُمَّ سَلِّمْنِي وَسَلِّمْ مِنِّي»، قَالَ: «فَتَجَلَّتْ وَلَمْ أُصِبْ مِنْهَا بِشَيْءٍ» (مصنف ابن أبي شيبة).
الشفقة على المسلمين والتوجع لما يصيبهم وإحياء الشعور بالجسد الإسلامي الواحد الذي إذا تألم منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر، هل هذه المعاني حاضرة في قلوبنا أم أن ما يهمنا هو تحصيل قدر من الحياة الدنيا أو القدر الأعلى من الحياة الدنيا وبعد ذلك لا يعنينا هلك الناس أو عاشوا سعدوا أو حزنوا؟ ويغيب عنا حقيقة مهمة أن البدن الإنساني يتأثر بعضه ببعض، فمرض في بقعة من بقاع العالم تسبب في إغلاق شامل وتوقف لحركة الاقتصاد وأضرار نفسية ومالية ضخمة تحتاج إلى مدد زمنية للتعافي منها، فالذي يفكر أنه سيعيش بمعزل عن الناس آلامهم ومصائبهم هو في الحقيقة بمعزل عن الواقع الذي يتأثر فيه أقصى الشرق بأقصى الغرب.
ولننظر إلى همّ أحد الصحابة رضي الله عنهم عن عائشة قالت: جاء رجل إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم فقال: يا رسول الله، والله إنك لأحبُّ إليّ من نفسي، وإنك لأحب إليّ من أهلي، وأحب إليّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلتَ الجنة رُفعت مع النبيين، وأني إذا دخلت الجنة خشيت ألا أراك، فلم يردّ عليه النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى نزل جبريل بهذه الآية: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ)، (قال الهيثمي: رواه الطبراني في “الصغير” و”الأوسط”، ورجاله رجال الصحيح، غير عبد الله بن عمران العابدي، وهو ثقة).
إذا اهتم الإنسان بشيء ماذا يصنع؟
بعضهم يبقى مهتماً حتى يقتله الهم أو يمرضه لكنه لا يتقدم خطوة واحدة نحو هدفه أو هروباً من خطر يخشاه وربما تحسر على تدني أحواله وتحسن أحوال من حوله ناعياً على الحظ والنصيب.
الهم بالمستقبل والتخوف من كل قادم، كل لحظة تحدث تغيرات أنت تتصور أنها لن تكون لصالحك، لكن نتذكر معاً قول الشاعر:
سهرت أعين ونامت عيون في أمور تكون أو لا تكون
إن الذي كفاك في أمس ما كان سيكفيك في غداً ما سيكون
____________________
(1) سنن أبي داود، سكت عنه أبو داود، وهناك من ضعفه لضعف أحد الرواة، لكن وردت استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين.