أشعر أن قلبي وقع في شبكات الدنيا الفانية، ومتاهات الحياة المادية، وتسارعات العالم المتصادم الصاخب؛ فعليه أن يتوقف! ليس بنبضه، ولكن بما يشغله ويملؤه، ليفر من هذا الاضطراب المحموم، إلى لحظات سكينة وطمأنينة، لعله يجدها في خشوع الصلاة، ولكن كيف أحقق ذلك؟
إن الصلاة عماد الدين وعصام اليقين ورأس القربات وغرة الطاعات، وفي الحديث عن معاذ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبرُكَ بِرَأسِ الأَمرِ كلِّهِ وعمودِهِ، وذِروةِ سَنامِهِ؟»، قلتُ: بلى يا رسولَ اللَّهِ، قالَ: «رأسُ الأمرِ الإسلامُ، وعمودُهُ الصَّلاةُ، وذروةُ سَنامِهِ الجِهادُ» (رواه الترمذي، صحيح)، والأمر هو الدين، ورأسه الشهادتان، وعموده الصلاة، أي كعماد البيت الذي لا يقوم إلا به.
الصلاة عماد الدين وعصام اليقين ورأس القربات وغرة الطاعات
عن عثمان رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة وذلك الدهر كله» (رواه مسلم).
وفي «المصباح المنير»: خشع خشوعاً إذا خضع، وخشع في صلاته ودعائه: أقبل بقلبه على ذلك، وهو مأخوذ من خشعت الأرض إذا سكنت واطمأنت، وفي «المدارج»: الخشوع هو قيام القلب بين يدي الرب بالخضوع والذل، وقال ابن رجب: أصل الخشوع لين القلب، ورقته وسكونه، وخضوعه، وانكساره، وحرقته، فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء، لأنها تابعة له.
يقول الله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ {1} الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (المؤمنون)؛ الذين هم في صَلاتهم إذا قاموا فيها خاشعون، وخشوعهم فيها تذللهم لله فيها بطاعته، وقيامهم فيها بما أمرهم بالقيام به فيها. (تفسير الطبري).
يقول السعدي: والخشوع في الصلاة هو حضور القلب بين يدي الله تعالى، مستحضراً لقربه، فيسكن لذلك قلبه، وتطمئن نفسه، وتسكن حركاته، ويقل التفاته، متأدباً بين يدي ربه، مستحضراً جميع ما يقوله ويفعله، من أول صلاته إلى آخرها، فتنتفي بذلك الوساوس والأفكار الردية، وهذا روح الصلاة، والمقصود منها، وهو الذي يكتب للعبد، فالصلاة التي لا خشوع فيها ولا حضور قلب، وإن كانت مجزئة مثاباً عليها، فإن الثواب على حسب ما يعقل القلب منها.
أصل الخشوع لين القلب وسكونه وخضوعه وانكساره
وقال ابن كثير: والخشوع في الصلاة إنما يحصل بمن فرغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، وحينئذ تكون راحة له وقرة عين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث في النسائي بسند صحيح: «حُبب إليَّ الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة»، وقال صلى الله عليه وسلم: «يا بلالُ أقمِ الصلاةَ، أرِحْنا بها» (رواه أبو داود، صحيح).
وكأن دخوله فيها هو الراحة من تعب الدنيا ومشاغلها؛ لما فيها من مناجاة لله تعالى وراحة للروحِ والقلب، وطلب الراحة في الصَّلاة يصدر ممن كان خاشعاً فيها ومحباً لها.
المعاني القلبية التي تتم بها حياة الصلاة:
جاء في «إحياء علوم الدين» (باختصار وتصرف): اعلم أن هذه المعاني تكثر العبارات عنها، ولكن يجمعها 6 كلمات، وهي: حضور القلب، والتفهم، والتعظيم، والهيبة، والرجاء، والحياء.
1- حضور القلب:
وهو أن يفرغ القلب عن غير ما هو ملابس له ومتكلم به، فيكون العلم بالفعل والقول مقروناً بهما، ولا يكون الفكر جائلاً في غيرهما، ومهما انصرف عن الفكر في غير ما هو فيه، وكان في قلبه ذكر لما هو فيه، ولم يكن فيه غفلة عن كل شيء، فقد حصل حضور القلب.
يقول الله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (ق: 37)؛ أي: قلب عظيم حي، ذكي، زكي، فهذا إذا ورد عليه شيء من آيات الله تعالى، تذكر بها، وانتفع، فارتفع، وكذلك من ألقى سمعه إلى آيات الله سبحانه، واستمعها استماعاً يسترشد به، وقلبه شهيد أي: حاضر، فهذا له أيضاً ذكرى وموعظة، وشفاء وهدى. (تفسير السعدي).
لا علاج لإحضار القلب إلا بصرف الهمة إلى الصلاة
وسبب حضور القلب الهمة: فإن قلبك تابع لهمتك فلا يحضر إلا فيما يهمك ومهما أهمك أمر، حضر القلب فيه شاء أم أبى فهو مجبول على ذلك ومسخر فيه، والقلب إذا لم يحضر في الصلاة لم يكن متعطلاً، بل جائلاً فيما الهمة مصروفة إليه من أمور الدنيا، فلا علاج لإحضار القلب إلا بصرف الهمة إلى الصلاة، والهمة لا تنصرف إليها ما لم يتبين أن الغرض المطلوب منوط بها، وذلك هو الإيمان والتصديق بأن الآخرة خير وأبقى، وأن الصلاة وسيلة إليها، فإذا أضيف هذا إلى حقيقة العلم بحقارة الدنيا، حصل من مجموعها حضور القلب في الصلاة، وبمثل هذه العلة يحضر قلبك إذا حضرت بين يدي بعض الأكابر ممن لا يقدر على مضرتك ومنفعتك، فإذا كان لا يحضر القلب عند المناجاة مع ملك الملوك الذي بيده الملك والملكوت والنفع والضر، فلا تظنن أن له سبباً سوى فتور الإيمان، فلنجتهد في تقوية الإيمان.
2- التفهم:
التفهم لمعنى الكلام أمر وراء حضور القلب، فربما يكون القلب حاضراً مع اللفظ ولا يكون حاضراً مع معنى اللفظ، فاشتمال القلب على العلم بمعنى اللفظ هو الذي أريد بالتفهم، وهذا مقام يتفاوت الناس فيه، إذ ليس يشترك الناس في تفهم المعاني للقرآن والتسبيحات، وكم من معانٍ لطيفة يفهمها المصلي في أثناء الصلاة ولم يكن قد خطر بقلبه ذلك قبله، ومن هذا الوجه كانت الصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر فإنها تفهم أموراً عن ذلك.
وسبب التفهم بعد حضور القلب إدمان الفكر وصرف الذهن إلى إدراك المعنى، وعلاجه إحضار القلب مع الإقبال على الفكر والتشمر لدفع الخواطر، وعلاج دفع الخواطر الشاغلة قطع موادها بالنزوع عن تلك الأسباب التي تنجذب الخواطر إليها، وما لم تنقطع تلك المواد لا تنصرف عنها الخواطر، فمن أحب شيئاً أكثر ذكره، فذكر المحبوب يملأ القلب، لذلك ترى أن من أحب غير الله لا تصفو له صلاة عن الخواطر.
3- التعظيم:
هو أمر وراء حضور القلب والفهم؛ إذ الرجل يخاطب الآخر بكلام هو حاضر القلب فيه ومتفهم لمعناه، ولا يكون معظماً له، فالتعظيم زائد عليهما.
وهو حالة للقلب تتولد من معرفتين؛ إحداهما معرفة جلال الله عز وجل وعظمته، وهو من أصول الإيمان، فإن من لا يعتقد عظمته لا تذعن النفس لتعظيمه، والثانية معرفة حقارة النفس وكونها عبداً مسخراً مربوباً؛ فيتولد من المعرفتين الاستكانة والانكسار والخشوع لله سبحانه فيعبر عنه بالتعظيم، وما لم تمتزج معرفة حقارة النفس بمعرفة جلال الله تعالى لا تنتظم حالة التعظيم والخشوع، فإن المستغني عن غيره، الآمن على نفسه، يجوز أن يعرف من غيره صفات العظمة، ولا يكون الخشوع والتعظيم حاله، لأن القرينة الأخرى وهي معرفة حقارة النفس وحاجتها لم تقترن إليه.
ما لم تمتزج معرفة حقارة النفس بمعرفة جلال الله تعالى لا تنتظم حالة الخشوع
4- الهيبة:
وهي زائدة على التعظيم، بل هي عبارة عن خوف منشؤه التعظيم؛ لأن من لا يخاف لا يسمى هائباً، والمخافة من العقرب وسوء الخلق وما يجري مجراه من الأسباب لا تسمى مهابة، بل الخوف من السلطان المعظم يسمى مهابة، والهيبة خوف مصدرها الإجلال.
وهي حالة للنفس تتولد من المعرفة بقدرة الله وسطوته ونفوذ مشيئته فيه، وأنه لو أهلك الأولين والآخرين لم ينقص من ملكه ذرة، وكلما زاد العلم بالله زادت الخشية والهيبة.
5- الرجاء:
لا شك أنه زائد عما سبق، فكم من معظم ملكاً من الملوك يهابه أو يخاف سطوته، ولكن لا يرجو مثوبته، والمسلم ينبغي أن يكون راجياً بصلاته ثواب الله عز وجل، كما أنه خائف بتقصيره عقابه.
وسبب الرجاء معرفة لطف الله عز وجل وكرمه وعميم إنعامه ولطائف صنعه ومعرفة صدقه في وعده الجنة بالصلاة، فإذا حصل اليقين بوعده والمعرفة بلطفه انبعث من مجموعهما الرجاء لا محالة.
6- الحياء:
مستنده استشعار تقصير وتوهم ذنب، وسببه استشعاره التقصير في العبادة وعلمه بالعجز عن القيام بعظيم حق الله عز وجل، ويقوي ذلك بالمعرفة بعيوب النفس وآفاتها، وميلها إلى الحظ العاجل في جميع أفعالها، مع العلم بعظيم ما يقتضيه جلال الله عز وجل، والعلم بأنه مطلع على السر وخطرات القلب، وإن دقت وخفيت، وهذه المعارف إذا حصلت يقيناً انبعث منها بالضرورة حالة تسمى الحياء.
ما أحوجنا لتحقيق هذه المعاني القلبية ليتحقق لنا الخشوع، وسط ضجيج الحياة المادية وتسارعها، ومشاغل الدنيا وهمومها.
_____________________________
(*) ماجستير في الدراسات الإسلامية.