من الثابت أن رحلة الإسراء والمعراج حدثت في جزء من ليلة، كما صرح القرآن الكريم بذلك في قوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[1]، وقد وقعت هذه المعجزة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أحداث عصيبة مرت به عليه السلام وبأصحابه الكرام رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، فكانت هذه المعجزة بمثابة تخفيف وتسرية عن قلبه صلى الله عليه وسلم – من ناحية، ومن ناحية أخرى كانت تثبيتا وطمأنينة له عليه السلام.
ولعلك أيها القارئ الكريم تتفق معي أن أسمى ما حدث في هذه المعجزة إنما هي تلك المشاهد التي رآها المصطفى عليه السلام؛ حيث رأى فيها مشاهد عظمى كاشفة عن علل واقعة في مجتمع المسلمين؛ فبعد أن رأى المصطفى عليه السلام سيدنا جبريل عليه السلام على هيئته الملائكية، يقول سبحانه: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى)[2]، رأى النبي صلى الله عليه وسلم مشاهد عدة منها: – الذين يغتابون على هيئة أناس يخمشون وجوههم وصدورهم بأظفار نحاسية. فعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لما عرج بي، مررت بقوم لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟، قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم [3]” قلت: والمقصود من ذلك التحذير من الغيبة التي هي عبارة عن ذكر الآخرين بما يكرهون، ومما لا شك فيه أن الغرض من ذلك إنما التحذير من هذه العادة القبيحة لما يترتب عليها من عداوة وضغينة تفضي إلى عظيم الضرر بوحدة المجتمع الإسلامي.
خطباء الفتنة
كما رأى عليه السلام خطباء الفتنة على هيئة أناس تُقْرَضُ ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من نار. فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار. قال: قلت من هؤلاء؟ قالوا: خطباء من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبر، وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب، أفلا يعقلون “[4]، ومما لا شك فيه أن هذا المشهد يؤكد على خطورة انحراف الدعاة إلى الله تعالى على المجتمع الذي يعيشون فيه، وعلى الدعوة التي ينتسبون إليها، إضافة إلى إنه صوت نذير في وجه اولئك الذين يبغون الانحراف بالدعوة عن مسارها الصحيح، كما رأى عليه السلام أولئك الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة فقد أخرج الطبراني والبزار، فعن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم “مر بقوم يزرعون ويحصدون، كلما حصدوا عاد كما كان، قال جبريل: هؤلاء المجاهدون، ومر بقوم ترضخ رءوسهم بالصخر، كلما رضخت عادت. قال: هؤلاء الذين تتثاقل رءوسهم عن الصلاة، كذلك أرى الله سبحانه رسوله عليه السلام صورة أولئك الذين لا يؤدون زكاة أموالهم، وصورة الزناة، وكذلك صورة خائن الأمانة، ففي الحديث السابق أنه عليه السلام قد مر بقوم على عوراتهم رقاع يسرحون كالأغنام. قال: هؤلاء الذين لا يؤدون الزكاة، ومر بقوم يأكلون لحما نيئا خبيثا، ويدعون لحما نضيجا طيبا قال: هؤلاء الزناة، ومر برجل جمع حزمة حطب لا يستطيع حملها، ثم هو يضم إليها غيرها، قال: هذا الذي عنده الأمانة لا يؤديها[5]، وهو يطلب أخرى وما هذه المشاهد إلا صوت نذير في وجه كل نفس تسول لصاحبها ارتكاب واحدة من هذه الجرائم التي تتنافى مع ما ينبغي في مجتمع المؤمنين، حيث إنها جرائم دالة على انتفاء المروءة، وغياب الشعور والإحساس بحال المسلمين، كما أنها تنبئ عن عدم التكافل والتراحم بين المؤمنين كما هو الشأن في عدم إخراج الزكاة، ثم إن رؤيته عليه السلام لحال الزناة على الصورة الواردة في الحديث تدل على قبح هذه الجريمة التي تؤكد على تجرد فاعلها من الإيمان بالله واليوم الآخر، إضافة إلى ما يترتب عليها من الجرأة على حدود الله، وانتهاك حرمة من ارتكبت في حقه، وأيضا يترتب عليها عداوة لا تنتهي، وبغضاء لا تتوقف، ونيران من الغيظ لا تخمد بمرور الأيام والليالي والسنين، فجاءت هذه الرؤية لتقضي على هذا الوباء العظيم حتى لا ينتشر في الأمة، كما أن خيانة الأمانة نقص في الدين، وخلل في العقيدة، وتدمير للقيم والأخلاق الحميدة.
وكذا ما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنبياء والمرسلين دلالة على فضله عليه السلام وفضل أمته ثم ما كان من فرض الصلاة عليه وعلى أمته في هذه الليلة الغراء يدل عل عظم الصلاة، وعلى فضلها وشرفها ودورها في تقوية علاقة المسلم بربه، ناهيك عما كان من أمر نبي الله موسى عليه السلام ودلالته على وثيق الصلة بين الأنبياء عليهم الصلاة، وأيضا يدل على أن ما يفعله أدعياء أتباع الأنبياء لا يمت إلى ما جاء عنهم بصلة.
وختاما فإن رحلة الإسراء والمعراج قدمت تصويرا لداءات الأمة وتصوير للعقوبات المترتبة عليها، لذا يطلب من كل مسلم صادق أن يتجنب هذه الداءات، وأن يقاومها حتى لا تضيع الأمة هنا وهناك. والله أعلم.
——
أستاذ التفسير وعلوم القرآن بجامعة الأزهر الشريف
[1] – سورة الإسراء آية: 1
[2] – سورة النجم أية: 13، 14، 15
[3] – أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم 13364. وقال محققه الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم
[4] – أخرجه الإمام أحمد حديث رقم 12232 وقال محققه الشيخ شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح، وهذا إسناد ضعيف لضعف علي بن زيد
[5] – أخرجه البزار في مسنده برقم 9518