لم تقتصر مفاجآت حرب «ناجورونو كارباغ» التي خاضتها أذربيجان لتحرير أراضيها المحتلة على المسيّرات التركية التي فاجأت القوات الأرمينية المعتدية، ولكن المفاجأة الأبرز كانت في توظيف واستخدام الذكاء الاصطناعي في الحرب.
فقد نقلت صحيفة «لوس أنجلوس تايمز» عن «آشوت سركيسيان»، وهو مقاتل أرميني يبلغ من العمر 51 عاماً قوله: «لا نتمكن من رؤية المسيّرات التركية، لنطلق النار عليها، ولا نسمعها لنختبئ».
معلوم أن كل تطور تكنولوجي جديد يلغي ما قبله من التكنولوجيا أو يحيّده؛ فابتكار «البازوكا»، وهو قاذفة صواريخ مضادة للدبابات ابتكرها عالم الصواريخ الشهير «روبرت إتش جودارد»، أدى لتقليل خطر الدبابات إلى حد كبير، وبالمثل؛ فإن الاستطلاع الجوي جعل مناورات القوات السرية خلف الخطوط في الحروب البرية تكتيكاً قديماً.
وقد بدأت صناعة الطائرات بدون طيار منذ أكثر من عقدين، ويُرجع بعض الخبراء ظهورها إلى الحرب العالمية الثانية، وقد مرت بمراحل كثيرة كان فيها التطور بطيئاً، لكن الذكاء الاصطناعي وعبر خوارزميات التعلم العميق أحدث ثورة هائلة في هذه الصناعة.
وتركيا لم تتفوق فقط في توظيف الطائرات بدون طيار في الحرب، لكنها ابتكرت وطوَّرت أيضاً تقنيات مضادة للطائرات بدون طيار، مثل منظومات الليزر، ومنظومات الطاقة، وهي توظّف الذكاء الاصطناعي في كثير من العمليات الحربية والتحكم عن بُعد في العديد من الأسلحة الأخرى.
الثورة الثالثة
تشمل أسلحة الذكاء الاصطناعي الصواريخ المضادة للإشعاع، وهي صواريخ تطير في مسارات دائرية (تتسكع) حتى تكشف الرادار ثم تعطبه، ويمكن للصواريخ المضادة للإشعاع أن تعمل بشكل مستقل تماماً.
والذكاء الاصطناعي يوصف الآن بأنه «الثورة الثالثة» في الحروب، بعد البارود والأسلحة النووية، وهو (الذكاء الاصطناعي) لا يحارب وحده، لكنه يدعم المحاربين، ولأن لكل ثورة أخطارها، فستحمل إستراتيجية الذكاء الاصطناعي التي تركز على مساعدة المحاربين البشريين تحديات تشغيلية وأخلاقية هائلة.
فعلى الرغم من كل مخاوف البشر بشأن الروبوتات القاتلة على غرار «Terminator»، ومعناها المدمِّر أو المُبيد، فمن المرجح أن يظل هدف الذكاء الاصطناعي في الجيوش هو دعم البشر، وليس استبدالهم.
وافقت أرمينيا، يوم الثلاثاء 10 نوفمبر الماضي، على وقف إطلاق النار مع جارتها أذربيجان لوضع نهاية مأمولة للحرب القصيرة بينهما حول منطقة «ناجورنو كاراباغ» المتنازع عليها.
جاء ذلك بعد أن سيطرت أذربيجان على الصراع جزئياً بفضل قدرة أساطيلها الرخيصة من الطائرات المسلحة بدون طيار على تدمير الدبابات الأرمينية، فيما وصفه المحلل العسكري مالكولم ديفيس بأنه تغيير لقواعد اللعبة في الحروب البرية.
وقد يكون التغيير الأكبر في قواعد اللعبة هو احتمال أن تكون هذه الطائرات المسلحة بدون طيار مستقلة تماماً، يسيّرها ويتحكم فيها الذكاء الاصطناعي، ولكن المخاوف في المستقبل المنظور من الأسراب القاتلة التي يمكن استخدامها للقتل مع الإفلات من العقاب، وهذه ليست مخاوف مبالغاً فيها، كما يقول مايكل هورويتز، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بنسلفانيا، وتركيا، حسب «ترك برس»، تُجري تجارب على هذه الأسلحة منذ عامين.
ومع ذلك، فالغالبية العظمى من الاستثمارات العسكرية في الذكاء الاصطناعي لن تكون حول الأسلحة الفتَّاكة ذاتية التشغيل فقط، كما يقول هورويتز؛ فقد كشف تقرير، صدر في أكتوبر الماضي، عن مركز «جورجتاون للأمن والتكنولوجيا الناشئة» أن أبحاث الدفاع في الذكاء الاصطناعي لا تركز على إزاحة البشر، لكنها تركز على مساعدة الأسلحة على التكيف مع طريقة تفكير البشر ومعالجتهم للمعلومات، حسب قول مارجريتا كوناييف، المشاركة في تأليف التقرير.
وتم عرض نسخة من هذا التقرير المستقبلي في حدث أقامته القوات الجوية الأمريكية، في سبتمبر الماضي، لإظهار نظام إدارة المعارك المتقدم (ABMS)، الذي يمكنه معالجة البيانات بسرعة في المعركة واستخدامها لتوجيه المحاربين في الميدان.
وعلى الرغم من أن لدى الجنود أجهزة باهظة الثمن، فإنهم ما زالوا ينقلون المعلومات يدوياً في الغالب أثناء القتال، غالباً من خلال سلاسل الإرسال اللاسلكي، لكن نظام إدارة المعارك المتقدم (ABMS) يهدف إلى استخدام الحوسبة السحابية والتعلم الآلي لتسريع هذه العملية، وزيادة قدرات كل مقاتل.
الذكاء الاصطناعي يوصف الآن بأنه الثورة الثالثة في الحروب وهو يدعم المحاربين ولا يحارب وحده
وفي عرض توضيحي لشهر سبتمبر، عرضت شركة «أندوريل» -شركة ناشئة في وادي السيليكون تركز على الدفاع- نظام برمجيات شبكة «Lattice»، الذي يعالج بيانات المستشعر من خلال خوارزميات التعلم الآلي لتحديد وتعقب تلقائي لأهداف تتحرك بسرعات كبيرة مثل صواريخ «كروز».
وباستخدام واجهة الواقع الافتراضي للشركة، لم يكن على الطيار في العرض التوضيحي إلا تحديد الهدف وإقرانه بنظام أسلحة لتدميره، وإغلاق ما يسميه الجيش «سلسلة القتل».
ما تهدف له شركة «أندوريل» والشركات الأخرى هو المشاركة في هذا القطاع ليقوم الذكاء الاصطناعي بالمشاركة في الدفاع بالطريقة نفسها التي يعمل بها حالياً في الصناعات الأخرى؛ تسريع معالجة المعلومات، وإنشاء ما يرقى إلى قوة عاملة هجينة أكثر فاعلية بين الإنسان والآلة.
لكن على الرغم من أن الناس ما زالوا هم الذين يقررون ما إذا كانوا سيضغطون على الزناد أم لا، فإن الخبراء قلقون بشأن دقة الخوارزميات التي تنصح بهذا القرار.
يقول هورويتز: إذا كنت تؤمن بالضبابية وعدم الوضوح الذي يحيط بالحرب؛ فكيف يمكنك الحصول على كل البيانات التي تسمح لك فعلياً بمحاكاة شكل بيئة ساحة المعركة بطريقة تمنحك الثقة لاستخدام الخوارزمية؟
كما أنه ليس من الواضح تماماً من سيكون مسؤولاً عن حادث يتعلق بسيارة ذاتية القيادة في الغالب (الإنسان الراكب داخلها أم التكنولوجيا)، كما يتساءل بي دبليو سينجر: من يتحمل العواقب إذا حدث خطأ ما في ساحة المعركة؟
السرعة المتناهية
إنه أمر سيئ أن يتسبب خلل في خوارزميات التداول في حدوث انهيار سريع في سوق الأسهم، لكن إذا شجعت أنظمة الذكاء الاصطناعي المعيبة الجيش على التحرك بسرعة كبيرة في ساحة المعركة، فقد تكون النتيجة سقوط الكثير من الضحايا المدنيين، أو وقوع صراع دولي، أو حتى حدوث حرب.
وقد أكدت حرب أرمينيا وأذربيجان حقيقة أن الحروب بين البشر لن تنتهي، وأن أمريكا وخصومها مثل الصين وروسيا سيمضون قدماً في تطوير أنظمة دفاع خاصة بهم مدعومة بالذكاء الاصطناعي.
باختصار؛ لقد وصلت البشرية لفجر عصر جديد في الحروب يمكن أن يطلق عليها «حروب الذكاء الاصطناعي»، والمنتصرون في هذه الحروب هم أولئك الذين سيبتكرون أسلحة جديدة ويطوّرون التدابير المضادة لها، كما قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: «من سيصبح قائداً في هذا المجال هو الذي سيحكم العالم»، وكما قال وزير الدفاع الأمريكي المقال مارك إسبر، في مؤتمر عقد بواشنطن عن الذكاء الاصطناعي: «الدولة التي ستُسـخِّر تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي أولاً سيكون لها ميزة حاسمة في ساحة القتال لسنوات قادمة».
وأضاف: «يجب أن نحقق هذا الأمر أولاً؛ فحروب المستقبل لن تقوم فقط على الأرض وعبر البحر كما كان الوضع منذ آلاف السنوات الماضية، أو حتى فقط في الجو كما كان الوضع في القرن الماضي، لكنها ستقوم أيضاً في الفضاء الخارجي والفضاء الافتراضي بأشكال غير مسبوقة».
______________________________
(*) العدد (2150)، ربيع الآخر 1442هـ/ ديسمبر 2020م – كتبه: جمال خطاب.