يموج العالم بفتنٍ كقطع الليل المظلم، مصداقًا لحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، من إلحادٍ لشذوذ، لانفلات خُلُقي، وأزمات لا حصر لها صحية وسياسية واقتصادية، ولا ينجو من آثار الفتن والأزمات غني أو فقير؛ دولاً أو أفراداً، في عالم مضطرب تتلاعب به الأحداث كما تتلاعب أمواج المحيط بالسفن.
في خضم هذه الأزمات، بين الحين والآخر، تصدمنا الأخبار بمحاولات استفزازية يقوم فيها أفراد ومنظمات بتنظيم فعاليات «حرق القرآن»؛ ما يؤدي في كل مرة إلى احتجاجات واعتراضات بطول العالم الإسلامي وعرضه، لكنها تتكرر بلا أدنى خجل! تحت الزعم بحماية حرية التعبير، تأتي الحادثة فيتفاعل معها العالم الإسلامي، ثم يهدأ فتأتي حادثة أخرى.
لا شك أن دولاً إسلامية وعربية قد اتخذت ردود فعل كبيرة تجاه هذا الفعل المنكر بإجراءات برلمانية وحكومية وإعلامية، لكنها تحتاج لمزيد من الجهد حتى تصبح أمراً واقعاً يحترمه العالم، لكن دعنا أولًا نوضح لماذا هي فتنة؟ ولمن؟
حرق القرآن فتنة، وقبل أن تكون فتنة لصاحب الفعل الإجرامي بالحرق، فهي فتنة واختبار لأهل القرآن، هل يستطيعون توفير الحصانة اللازمة والحماية المطلوبة لعدم تكرار هذه الفعاليات، هل يستفرغ المسلمون جهودهم ويستخدمون إمكاناتهم؟ هل تقوم الحكومات بدورها المطلوب؟
وحتى لا يكون الحديث اجترارًا للمرارات أو تنفيسًا عن الغضب، نسوق بعض الاقتراحات العملية في هذ الشأن.
جهود دولية
تقف بعض الدول التي تدافع عن فعاليات حرق القرآن باعتبارها حرية تعبير حائلة دون الوصول لقرار دولي يضمن عدم تكرار ذلك، وتفرغ أي محاولة من محتواها، وهو ما يستوجب عدم الاكتفاء بمحاولة استصدار قرارات الإدانة التي تقابل في الغالب بـ«فيتو» من الدول الرافضة، بل بتبني أجندة عمل متكاملة تشمل إعداد مشروع قرار أممي بتضمين ميثاق الأمم المتحدة مواد لحماية المعتقدات والرموز الدينية المعترف بها وتجريم الاعتداء عليها، ويرافق ذلك حراك دبلوماسي وأممي وشعبي موازٍ داعم.
تستطيع الدول الإسلامية أيضًا استخدام آليات الدبلوماسية الناعمة، عبر وسائل عدة تمثل رافعة لمطالب التجريم، مثل: تسجيل «جائزة سنوية» بالأمم المتحدة تُمنح للدول التي تُضَمّن دساتيرها وتشريعاتها نصوصًا تحمي المعتقدات والأديان أو المنظمات والهيئات والمراكز غير الإسلامية التي تنظم فعاليات للتعريف بخطورة الإساءة للقرآن الكريم وضرورة احترامه، كما تستطيع البعثات الإسلامية بالأمم المتحدة تخصيص «يوم دولي للقرآن الكريم» معترفًا به ومثبت بالأجندة السنوية الدولية، وليكن في ليلة القدر يُحتفل به في العالم أجمع وليس في بلاد المسلمين فقط، وهذا حقٌ مشروع للعالم الإسلامي الذي يزيد عدد منتسبيه عن ربع سكان الكوكب.
جهود محلية
الدور الأهم يأتي في الإجراءات المحلية بالدول الإسلامية التي تستطيع من خلالها تضمين دساتيرها وتشريعاتها القومية آليات حماية واحترام معتقداتها وشعائرها ورموزها الدينية وعلى رأسها القرآن الكريم، في مقدمة تلك الإجراءات يمكن النص على حق التقاضي أمام المحاكم الوطنية، الذي يحق من خلاله للحكومات والأفراد رفع الدعاوى على منظمي فعاليات الإساءة والحرق، والحصول على أحكام قضائية ضدهم ومن ثم مطالبة الإنتربول بتسليمهم للمثول أمام المحاكم، وهذا الأمر -رغم ما يكتنفه من صعوبة واقعية- كفيل بمحاصرة هذه الفعاليات وانزوائها بشكل كبير.
تستطيع الدول الإسلامية وعلى غرار مقترح «اليوم الدولي للقرآن الكريم» أن تنظم أياماً وطنية تسميها «اليوم الوطني للقرآن الكريم» على غرار أيام أخرى للرياضة والفن أو الأمومة والطفولة، وتعمم الاحتفال بهذا اليوم في سفاراتها بالخارج.
يمكن أيضًا ربط احترام القرآن الكريم بشروط المشاركة في بعض الفعاليات التي تنظمها الدول، أو بعض التعاقدات الدولية المؤثرة مع تلك الدول التي تحمي وتدعم تنظيم فعاليات الإساءة تلك، تستطيع الدول أيضاً إنشاء مجالس أو أجهزة فرعية بالمنظمات الإقليمية لحماية وتعزيز احترام القرآن الكريم.
لا شك أن تعدد الفعاليات كمًا وكيفًا يتيح مجالًا واسعاً للتعريف بالقرآن وترسيخ معاني حمايته، وتعدد أدوات الاحترام وتراكمها جغرافيًا وزمنيًا يصنع فارقًا مهمًا ينضم لأفكار أخرى ناجحة كالمقاطعة الاقتصادية والفعاليات الاحتجاجية.
ربط الأمر بأجندة دولية يجعله مطروحاً للنقاش بصفة دائمة، وربطه من جهة أخرى بفعاليات حقوقية وثقافية واحتفالية وجوائز دولية يضمن له وجوداً دائماً على الأجندة الشعبية بدول العالم المختلفة، وإتاحة التقاضي بشأنه داخل الدول الإسلامية يتيح للمواطنين أدوات فاعلة ملموسة بدلاً من موجات الغضب التي لا يترتب عليها شيء وتؤدي لعكس المطلوب في أحيان كثيرة، كما يصنع اليوم العالمي والجائزة الدولية عبر منصات الأمم المتحدة فرصة لتعزيز نظرة الاحترام لدولنا وشعوبنا تَنتُج عن حرصنا على احترام كتابنا وشعائرنا، بذات الدرجة يصنع اليوم الوطني فارقًا حيث تحتفل به الدولة في منابرها ومنصاتها الوطنية المختلفة، وكذلك سفاراتها وبعثاتها الدبلوماسية في أنحاء العالم؛ وهو ما يوفر فرصة للتعريف بالقرآن من جهة وتعزيز معنى الاحترام ورفض الإساءة من جهة.
ما أثرناه، أفكار قد لا تمنع بالضرورة فعاليات الإساءة للقرآن، لكنها تلفت النظر لضرورة العمل على توفير أرضية مناسبة للبدء في عمل مؤسسي متكامل ينجح مع الوقت ويزداد أثره بالتراكم والتفاعل، ويتولد عنه أفكار مماثلة تعزز من النجاح في حصار هذه الجريمة بحق كتابنا، كما توفر حجة عند السؤال أمام رب العالمين.