من منظور الدور الذي تمارسه كيمياء الجسم في توجيه السلوك البشري، يمكن فهم أثر البيئة على الإنسان بطريقة أوضح، فالمؤكد أن للبيئة أثراً قوياً في الإنسان، بَيْدَ أنّ فهم طريقة التأثير كان عـقيماً، إلى أن وضعته الكيمياء الحيوية على الطريق الصحيح.
ففي عدد من المستشفيات العقلية في بعض البلدان الفقيرة، يُزَجّ بعدد كبير من النساء على أنهم مرضى نفسيون، والحق أن لمعظم هؤلاء الضحايا سلوكاً مضطرباً، بَيْدَ أنه لا يعود إلى مرض، ولكن إلى نقص غذائي، ففي هذه البلدان الفقيرة، حيث يعاني أكثر الناس من سوء التغـذية، تنتج المعاناة من نقص فيتامين «نياسين» (أحد أفراد عائلة فيتامين «ب» المركب)، ونقص هذا الفيتامين يؤدي إلى اضطراب السلوك!
والحق أن الكيمياء كشفت كيف أن الغـذاء (وهو مؤثر بيئي) يمكن أن يلحق الأذى بسلوك الإنسان، ففي دراسة أجريت على 400 طفل، اتضح أن زيادة نسبة الزنك والنحاس (الموجودة في الجسم على صورة أملاح معدنية) أدت إلى ظهور ميول عدوانية عند الأطفال! وجدير بالذكر أن الزنك والنحاس يوجدان في الجسم بمقادير ضئيلة للغاية، ويمكن معرفة مقاديرهما في الجسم بتحليل محتواهما في خلايا الشعـر.
ومثل هذا يقال عن معدن الرصاص، أحد ملوثات البيئة في الحياة المعاصرة، فعند مقادير قليلة في الدم من هذا المعدن، لا تكفي لإحداث حالة «التسمم بالرصاص»، تضعف القدرة على التركيز، وتقل الدرجة التي يحصل عليها الإنسان في واحد من اختبارات الذكاء، وعند ارتفاع نسبة الرصاص في أجسام الأطفال، تكون العاقبة اضطرابات عقلية وفيزيائية.
ولا بد من التنويه، في هذا السياق، بتأثير الكحول على السلوك البشري، ولا حاجة هنا إلى ذكر تأثير الكحول على القدرات العقلية والجهاز العصبي للإنسان، فهذا من البديهيات التي صارت معروفة لكل إنسان تقريباً، ولكننا نقف عند الجديد الذي ظهر من الأبحاث مؤخراً؛ حيث إن أول ما تكشف عنه الأبحاث، أن الأطفال الذين يولدون من أبوين يشرب أحدهما أو كلاهما الخمر، يكون عرضة بمقدار 4 أضعاف لأن يصبح مدمناً للخمر، أكثر من الطفل الذي يولد لأبوين لا يشربان الخمر، وتبدو هذه النتيجة مذهلة، عندما تتبنى أسرة لا تتعاطى الخمور طفلاً لأسرة تتعاطى الخمور، إذْ تبقى ميول الطفل إلى شرب الخمور عالية، على الرغم من نشأته بعيداً عن الخمر، ويعتقد أن هناك عاملاً وراثياً يتعلق بإنزيمات «تكسير» الكحول في الكبد، ويؤدي إلى نقل الميل إلى الكحول عند أبناء من يتعاطون الخمور.
أما الأهم من ذلك، فهو أن تعاطي الكحول أثناء الحمل يؤدي إلى «التشوهات الخلقية»، وإلى تأخر النمو والتخلف عقلياً، وفي الحالات التي ينجو فيها الجنين من هذه التشوهات والآثار، فإنه يخرج إلى الحياة متميزاً بنشاط زائد وتوتر؛ وعند البلوغ بسلوك مضاد للمجتمع!
كيمياء المخ
الظاهر أن اضطراب التوازن الكيميائي في الجسم ليس مسؤولاً فحسب عن اضطراب السلوك، وإنما كذلك عن جنوح الإنسان إلى الجريمة.
فالمعـروف أن حـفـظ توازن وظائف أعـضاء الإنســـان يتم عن طريق تبادل رسائل عصبية بين المخ وسائر أعضاء الجسم وأجهزته، وعمليات انتقال هذه الرسائل هي ما يطلق عليه اسم «السَّيَّال العصبي»، ويلزم لانتقال السيال العصبي عبر الأعصاب إلى المخ، ومن المخ عبر الأعصاب، وجود مواد كيميائية معينة تعرف باسم «الناقلات العصبية» (Neurotransmitters).
ومن الناقلات العصبية المعروفة منذ بعض الوقت المادتان «إبينيفرين» (Epinephrine)، و«نور إبينيفرين» (Norepinephrine)، وقد أظهرت التجارب الحديثة على الحيوان أن زيادة نسبة هاتين المادتين في المخ تؤدي إلى سلوك عنيف، يمكن معه أن يقتل الحيوان حيواناً آخر من نفس فصيلته وجنسه!
هل الأمر كذلك عند الإنسان؟! سؤال لم يجب عنه البحث بعـد، على أنّ مما يعـضد حقيقة تأثير كيمياء المخ على السلوك، أن الإنزيم المعروف اختصاراً بالحروف «MAO» (أحادي أمين أُكسيداز) والموجود في المخ، يؤدي دوراً أساسياً في مزاج الإنسان، فانخفاض نسبة هذا الإنزيم في المخ يؤدي إلى شعـور بالابتهاج، بينما يؤدي ارتفاع نسبته إلى شعور معاكس تماماً بالاكتئاب.
وطريقة عمل الإنزيم المذكور في المخ، وبالتالي النتائج المترتبة عليه، لا يدع مجالاً للشك في تأثر السلوك البشري بكيمياء المخ، ويبدو أن الأوساط الطبية اقتنعت بحقيقة دور الكيمياء الحيوية، وقبلت البحث في اضطرابات السلوك من هذا المنطلق، وقد أدى ذلك إلى كشف جديد عن الأسباب الحقيقية لمرض «الفِصام» (انفصام الشخصية)، الذي يشيع بين المراهقين من الجنسين، ويؤدي –في حال عدم علاجه– إلى تدهور الشخصية بشكل خطير.
وكانت الأبحاث البيولوجية كشفت عن دور الجينات (العامل الوراثي) في هذا المرض الخطير، بيد أن الأعراض المميزة لمرض انفصام الشخصية مثل الانزواء والأوهام والتخيلات والميل إلى العنف، والنزوع إلى الشك والارتياب، بقيت غامضة دون تفسير، وبدراسة كيمياء المخ عند هؤلاء المرضى، باستخدام طريقة «المسح الطبقي المحوري بالكمبيوتر» (CAT Scan)، اتضح أن المخ يستخدم عدداً من المركبات الكيميائية بطريقة خاطئة، ومن بين ذلك بعض الناقلات العصبية.
وفي مرض آخر أكثر انتشاراً من الفصام؛ وهو «الاكتئاب»، أظهرت أبحاث الكيمياء الوراثية أن جيناً واحداً هو المسؤول عن الاكتئاب، من خلال إشاعة اضطراب كيميائي في المخ، ويقع جين الاكتئاب بالقرب من الجينات التي توجه تكوين أجسام المناعة، الأمر الذي يدفع بعـض الباحثين إلى الاعتقاد بأن المصابين بالاكتئاب لديهم نسبة عالية من «أجسام مضادة» (Antibodies) معينة، تعتبر السبب وراء اضطراب كيمياء المخ.