أيها التعساءُ المتخبطون في حلكاتِ(1) البخلِ، السائرون على غيرِ هدى في دياجيرِ الشحِ، حرروا أنفسَكم من قيودِهما، وأَلْقُوا عن كواهلِكم أعباءهما، وطالعوا أخبار الأجوادِ الأسخياءِ ربما أذِنَتْ بمشرقِ(2) الجودِ في أنفسِكم.
وإلى وقفةٍ مع عبيدِ اللهِ بن العبَّـاس رضي الله عنه، وقفة تدفعُنا دفعًا إلى التَّمَـهُّلِ مع العبارةِ الرائعةِ التي ازْدَهَتْ بها وازْدَانَتْ دارُ العبَّـاسِ بن عبدالمطلب حال حياته: من أراد الجمالَ والفقهَ والسخاءَ فليأتِ دارَ العبَّـاسِ بن عبدالمطلب.. فالجمالُ للفضلِ، والفقهُ لعبدِ اللهِ، والسَّخاءُ لعبيدِ اللهِ.
ولد عبيدُ اللهِ بن العباس قبل الهجرةِ بعامين، فكان أصغر من أخيه عبدالله رضي الله عنهما بعام، وكان له ولإخوته في قلب النبي مكانٌ، فكان صلَّى الله عليه وسلم يَصُفُّ عبداللّه، وعُبَيْدَ اللّه، وكَثِيرًا بَنِي العبَّـاس، ثم يقول: «من سبق إِلَيَّ فلهُ كذا»، فَيَسْتَبِقونَ إليه، فيقعون على ظهرِه وصدرِه، فَيُقَبِّلهم ويلزمهم(3).
لذا، فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه، ومات صلى الله عليه وسلم وله اثنتا عشرة سنة.
وما أن انتظمَ عبيد الله طور الشبابِ حتى تحرَّاهُ المدحُ(4)، فلئن برهن المتنبي على تفوق موهبته، وعمق كلمته بقوله:
وإذا كانت النُّفوسُ كبارًا تَعِبَتْ في مُرَادِها الأجسامُ
فقد أقام عبيد الله الدليل على صحة هذا المعنى بفعله؛ لأنه كان يمتلك بين جنبيه نفسًا كبيرة تُدْئِبه(5) وَتُتْعِبه، وتدفعه دفعًا لا يستطيع منه فكاكًا إلى غَشَيان(6) الأمور الجسام، وتَشْطُر وجدانه بين حبيبين؛ حب إطعام الطعام، وحب طلب العلم، فهي كما تدفعه إلى العمل بالتجارة لتدوم قدرته على نحر جزورين في اليوم، ومدّ الموائد على الطرق وفي سوق مكة، تدفعه أيضًا إلى الاستكثار من طلب العلم فيرى في طلبه أخصّ لذاته في حال سرائه، تماماً كما يرى فيه سلوته في حال ضرائه، وإذا وقع عليه هنا لسان بلائمة قال: إن نشطت فهو لذتي، وإن اغتممت فهو سلوتي(7).
وسطت أخبارُ كرَمِهِ على أخبارِ عِلْمِهِ لأسباب غفلها التاريخ، وتضاعف تحرِّيِّـه لأخبار كرمه، حتى قال عنه: كان أميرًا شريفًا جوادًا ممدَّحًا، يُضربُ به المثلُ في السَّخاءِ، وكان ينحرُ كل يومٍ جزورًا فَنَهاهُ أخوه عبدُاللهِ فلم ينتهِ ونحرَ كلَ يومٍ جزورين، وكانا إذا قَدِمَا المدينةَ بذلا قصارَهما في التقربِ إلى اللهِ؛ عبدُاللهِ بعلمِه، وعبيدُ اللهِ بمالِه وطعامِه حتى قيلَ: إنه أول من وضع الموائد على الطرقِ.
وإلى مشهد مضاعف الدلالةِ على ما أسلفناهُ، مشهد ساقته مذاهبُ(8) عبيدالله، مشهد يقول: خرجَ عبيد الله يومًا في سفرٍ ومعهُ مولىً له حتى إذا كانا في بعض الطريقِ صادفهما مطرٌ شديدٌ، فظهرَ لهما بيتُ أعرابيّ، فقالَ لمولاهُ: لو إنَّا مضينا فنزلنا بهذا البيتِ وبتنا به.
فمالا على البيت، وكان عبيدُ الله رجلًا جميلًا ظاهر الوَضاءَةِ(9)، فلما رآهُ الأعرابيُّ أعظمَهُ واحتفى بهِ، بيدَ أنَّ خَصْلةَ الكرمِ كانت متأصلةً في نفسِ الأعرابي رُغمَ مشاقِ الفقرِ، وجهدِ العوزِ، فدخل على امرأتِهِ قائلاً: لقد نزلَ بنا رجلٌ شريفٌ، فهل عندكِ من عشاءٍ؟ فزفرتْ المرأةُ شجينةً(10): لا، إلا هذه الشاة الصغيرة التي حياة ابنتِك من لبنِها، فقال الرجل: لا بدَّ من ذبحِها، فهتفتْ المرأةُ بسؤالِهِ: أفتقتل ابنَتك؟! فأجابَ في إصرارٍ نادرٍ: وإنْ.. وخفَّ إلى الشاةِ والشفرةُ بيدِهِ وهو ينشد:
يا جَارتي لا تُوقِظي الْبُنَيَّـةْ
إنْ تُوقِظِيهَا تَنْتَحِبْ عَلَيَّهُ
وتَنْزِعِ الشَّفْرَةَ من يدَيَّهْ
وهيَّـأ لهما طعامًا، وكان عبيدُ اللهِ قد سمِعَ محاورةَ الأعرابيِّ وامرأتِهِ، فلمَّا أصبح قال لمولاهُ: هل معك شيء؟ فقال: نعم، خمسمائةِ دينارٍ فضلتْ من نفقتِنا، فقال عبيدُ اللهِ: ادفعْهُم إلى الأعرابيِّ، فقال مولاهُ مستغربًا: سبحان الله! أتعطيهِ خمسمائةِ دينارٍ وقدْ ذبحَ لك شاةً بخمسةِ دراهم؟! فردَّ عبيدُ الله مبرهِنًا على فيضِ كرمِهِ وجمالِهِ في أفعالِهِ وأقوالِهِ: ويْحَكَ والله! لهو أَسْخَى منَّا وأَجْوَد، فلئِنْ كنَّا سنعطيهِ بعضَ ما نملك فقد جادَ هو علينا بكلِ ما يملك، وآثرنا على مهجةِ نفسهِ وولدِهِ.. فدفعَها مولاه إلى الأعرابي، فبلغَ ذلك معاويةَ بنِ أبي سفيانَ، فقال يُزكِّي أصله ونسبَهُ، ويُبدي مؤهلات تربيته ونشأته: لله درُ عبيدِ اللهِ من أي بيضةٍ خرجَ وفي أي عُشٍّ درجَ؟!
لأنَّ معاوية رضي الله عنه يعلم أنَّـه خرجَ من بيضةٍ الرصينة الرزينة أمِ الفضلِ لُبابةَ بنتِ الحارثِ الهلالية، ودرجَ في عُشِّ القرشي الهاشمي عم النبي العباس بن عبدالمطلب.
ويستطيبُ التاريخُ الثناءَ على سخائِهِ فيسترسلُ بلسانٍ رطَّبَهُ الثناءُ وندَّاه الحمدُ(11): أتى رجلٌ إلى عبيدِ اللهِ بنِ العباسِ وهو بفناءِ دارهِ، فقام بين يديهِ وقال: يا ابن عباس، إنَّ لي عندَك يدًا وقد احتجتُ إليها، فصعَّدَ عبيدُ اللهِ فيه بصرَه فلمْ يعرفهُ فسألَهُ باسمًا: وما يدُك؟ فقال الرجلُ: رأيتُك واقفًا بفناءِ زمزم وغُلامك يَنْزِعُ لك من مائِها والشمسُ قد صهرتَك فظللتُكَ بفضلِ كسائي حتى شربت، فقال عبيدُ اللهِ: أجل إنِّي لأذكرُ ذلك، ثم سأل غلامَهُ: ما عندك قال مائتا دينارٍ وعشرةَ آلافِ درهمٍ، فقال: ادفعها إليه وما أراها تفي بحقِ يدِه، بينما الرجلُ إليه مُنْصِتٌ، وبروعةِ سخائِهِ مأْخوذٌ.
وتحمَّلَ عبيدُ اللهِ نصيبَهُ من أعباءِ أمرِ المسلمين، فعمل والياً على اليمنِ منْ قِبَلِ ابن عمِه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وحج بالناس سنةَ ستٍ وثلاثين وسبعٍ وثلاثين، ولم يزل واليًا على اليمنِ حتى استشهدَّ علىٌّ سنةَ أربعين هجرية، ولما سار بُسْرُ بن أَرْطاةٍ إلى اليمنِ وكان قائدًا لمعاويةَ بن أبي سفيان رضي الله عنه سيَّرهُ إلى الحجاز واليمن لحربِ شيعةِ عليٍّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وأخذِ البيعة له، فارقها عبيدُ اللهِ حقنًا لدماءِ المسلمين فلم يتورعْ بُسرٌ عن قتلِ ولديهِ، وعندما فارقَ بسرٌ اليمنَ عادَ إليها ليجترَّ(12) على ولديهِ أحزانًا مُرَّةً لم يزايلهُ(13) مذاقُها حتى لحقَ بهما في سنةِ ثمانٍ وخمسين، وقيل: بل سنةَ سبعٍ وثمانين، وقال البعضُ بوفاتِهِ في المدينةِ في أيامِ يزيد بن معاويةَ.
رضي اللهُ عن أبي محمد(14) عبيدِ اللهِ بنِ العبَّاسٍ وأرضاه، وأنالهُ من كرمِهِ أضعافًا كثارًا مما كان يطمحُ إليه ويتمناه(15).
_________________________
(1) حلكات، ودياجير: جمع حلكة، وديجور وهما الظلمة، والمقصود أن البخيل يعيش في ظلمة البخل.
(2) بإظهار الكرم في سلوككم ودفعكم إليه.
(3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، باب فضائل الصحابة (1922).
(4) ما إن دخل في مرحلة الشباب حتى تتبعه النَّاس بمدحهم له نظرًا لكرمه الشديد.
(5) تجعل كرمه وبذله ماله من دأبه وعادته.
(6) إتيان.
(7) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/ 239).
(8) سلوكياته وتصرفاته الكريمة.
(9) الجمال والحُسْن، والنظافة والإشراق.
(10) حزينة مهمومة بسبب الفقر.
(11) جمَّلت أخباره حديث التاريخ عنه.
(12) يستعيد مرارة الحزن رغماً عنه.
(13) لا يزول عنه.
(14) كان عبيد الله بن العباس يُكنَّـى بأبي محمد.
(15) المستطرف (باب 33)، البداية والنهاية (8/ 90)، عيون الأخبار لابن قتيبة (1/ 457)، الإصابة (5319)، الاستيعاب (1734)، سير أعلام النبلاء (3/ 512)، أسد الغابة (3470).