تعرض الفلسطينيون لمحاولات اجتثاثٍ متتالية منذ قيام دولة الاحتلال عام 1948م، وحتى يومنا هذا، ومن أكثر تلك المحاولات قتامة، مجزرة «صبرا وشاتيلا»، التي أودت بحياة نحو 4 آلاف فلسطيني ولبناني، في واحدةٍ من أبشع المجازر التي جرت في الحرب الأهلية اللبنانية، واستُهدف فيها اللاجئون الفلسطينيون في هذا البلد.
اجتياح دولة الاحتلال للبنان عام 1982م
لم تستطع «عملية الليطاني» التي أطلقها جيش الاحتلال في عام 1978م وقف عمليات الفدائيين الفلسطينيين، وقد أسهمت الحرب الأهلية اللبنانية بتصاعد نفوذ منظمة التحرير الفلسطينية وقوتها، ولم تكمن دولة الاحتلال بعيدة عن الأطراف اللبنانية المتقاتلة، فقد دعمت اليمين اللبناني بشكل كبير، وبدأت الاستعدادات المبكرة لإطلاق عملية عسكرية ضخمة لاجتياح لبنان، وقد كانت ذريعة الاحتلال حينها حماية المستوطنات «الإسرائيلية» في الجليل من خطر صواريخ «المقاومة»، وانتظرت ذريعة أخرى وهي اغتيال سفيرها في إنجلترا شلومو آرغوف، لتبدأ قصف مواقع منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان صيف عام 1982م، وفي 6/ 6/ 1982م أطلقت «إسرائيل» عملية «سلام الجليل»، حيث اجتاحت قوات الاحتلال «الإسرائيلي» جنوب لبنان، وعلى الرغم من أن هدف العملية منع العمليات؛ فإن الكشف عن وثائق الحرب «الإسرائيليّة» بعد 33 عامًا، كشف بأن قرار احتلال بيروت اتخذ قبل انطلاق الحرب بعامين كاملين.
وفي الطريق إلى بيروت واجهت القوات «الإسرائيلية» مقاومة شديدة، ولكنها وصلت إلى بيروت وفرضت عليها حصارًا محكمًا، استمر لشهرين كاملين، وقد تعرضت فيهما المدينة لقصف عنيف جدًا، حتى رضخت منظمة التحرير الفلسطينية واختارت الانسحاب من بيروت، وما بين 21/ 8/ 1982 و3/ 9/ 1982م انسحب ياسر عرفات من المدينة مع ما يزيد على 11 ألف مقاتل فلسطيني، وفي 15/ 9/ 1982م دخلت القوات «الإسرائيلية» إلى ما كان يُسمى حينها بـ«بيروت الغربية».
خيوط المؤامرة
على الرغم من الضمانات الدولية التي أُعطيت للفلسطينيين حينها، وأن القوات المتعددة الجنسيات ستؤمن الحماية للمخيمات الفلسطينيّة، وعوائل الفدائيين الذين خرجوا من بيروت وتوجهوا إلى بلادٍ مختلفة، فإن هذه القوات انسحبت الواحدة تلو الأخرى، بعد خروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية والفدائيين، فقد انسحبت القوات الأميركية في 10 سبتمبر 1982م، والإيطالية في 11 سبتمبر، تبعتها القوات الفرنسية في 13 سبتمبر.
ولكن الشرارة الأكبر للمجزرة، فكان اغتيال قائد مليشيا الكتائب اللبنانية بشير الجميّل، فقد قتل في انفجار ضخم في 14 سبتمبر 1982م، فأرادوا الانتقام بوحشية، وكانت المخيمات الفلسطينيّة في بيروت هدفهم ليمارسوا فيها وحشيتهم، ففي 16 سبتمبر 1982م، وبعد يومين من اغتيال الجميّل ودفنه، حاصرت القوات «الإسرائيلية» مخيمي صبرا وشاتيلا، وفتحت المجال لثلاث فرق عسكرية تابعة لمليشيات القوات والكتائب بالدخول إلى المخيم، إضافة إلى عناصر مما يُسمى «جيش لبنان الجنوبي»، وكانت ذريعتهم البحث عن مقاتلين فلسطينيين متخفين في المخيم، وفي الوقت نفسه كان وزير الدفاع «الإسرائيلي» حينها أرئيل شارون يتابع المجزرة من سطح مبنى السفارة الكويتية السابق، الذي كان مطلًا على المخيم ليُشرف بنفسه على المجزرة.
جرائم مروعة وتفاصيل مؤلمة
بدأت المجزرة المروعة مع حلول مساء 16 سبتمبر 1982م، مع تسلل العناصر المتطرفة، وانتشروا في شوارع المخيم وسيطروا عليه بشكل كامل، واستمرت المجزرة ثلاثة أيام بلياليها، ارتكبت فيها هذه العناصر مذابح بشعة، مستخدمين الأسلحة الرشاشة الخفيفة والمسدسات، إلى جانب الأسلحة البيضاء من السكاكين والفؤوس وغيرها، ولم يستثنِ المجرمون أحدًا من الآمنين في المخيم، فقد تواردت شهود العيان ومن استطاع النجاة من المجزرة بأن القتلة بقروا بطون الحوامل، وألقوا بالأجنة في شوارع المخيم، كما قاموا بقطع أطراف الأطفال، وشاهدت الأطقم الطبية التي دخلت المخيم بعد أيامٍ من المجزرة، عشرات الجثث، والأشلاء المنتشرة في الأزقة، وداخل البيوت، ولم يسلم من الاستهداف حتى العاملون في القطاع الطبي، فقد اقتحمت هذه العصابات مشفى عكا في المخيم، واقتادوا عددًا من الجرحى والممرضين والأطباء إلى خارج المخيم، وقاموا بقتلهم بدم بارد.
وتُشير معلومات شهود العيان إلى أن قوات الاحتلال كانت تطلق في الليل القنابل المضيئة، لتسمح للمجرمين باستكمال عملهم، واستمرت المجزرة الفظيعة، بما فيها من قتلٍ وذبح وخطف المروعة حتى يوم السبت في 18 سبتمبر 1982م، وتوقفت تدريجيًا بعد ظهر ذلك اليوم، وأسفرت المجزرة عن مئات الشهداء، وعلى الرغم من مضي 41 عامًا من مضي المجزرة؛ فإن عدد الضحايا لم يحسم بشكلٍ كامل، إذ تتفاوت التقديرات ما بين 1300 – 5 آلاف شهيد، نحو 75% منهم من الفلسطينيين، أما الباقون من اللبنانيين الذين يسكنون في المخيم وجنسيات أخرى جلهم من العمال الأجانب.
لا يمكن حصر الفظائع التي جرت في المجزرة، فالصور التي وصلت إلينا قاسية مؤلمة، تختلط فيها أشلاء الأطفال مع التراب في أزقة مخيم تعرض للقصف والانتهاك ساعات عدة، كانت ساعات من بارود ونار ودم، ويمكننا استعارة الوصف الذي أطلقه الصحفي البريطاني روبرت فيسك على المجزرة، وقد كان أحد الذين غطوها إبان عمله صحفيًا في لبنان، فقد وصفها بأنها «أفظع عملٍ إرهابي في تاريخ الشرق الأوسط الحديث»، أما الكاتب الفرنسي «الإسرائيلي» أمنون كابليوك فقد قال عن المجزرة: إنها أكثر المذابح بشاعة وفظاعة منذ الحرب العالمية الثانية.
فروا من العقاب.. ولكن!
على الرغم من انسحاب قوات الاحتلال صاغرة من بيروت في أواخر سبتمبر من العام نفسه، بعد تصاعد العمليات التي استهدفت قواتها، وتحول مجزرة صبرا وشاتيلا إلى حدثٍ عالمي، فإن القائمين على المجزرة لم يتم محاسبتهم، وشاركوا بعضهم في الحياة السياسية في لبنان أو في دولة الاحتلال، ولكن مصائر القتلة كانت فظيعة جلية، فقائد المليشيات التي اقتحمت المخيم «إيلي حبيقة» قُتل في تفجيرٍ غامض في عام 2002م، أما أريئيل شارون فقد بقي في المشفى 8 سنوات على إثر تعرضه لسكتة دماغية، وكانت صوره في المشفى تذكر بفرعون وتحوله إلى ذكرى وعبرة، وهذا جزءٌ من عقابهم في الدنيا، أما العقاب في الآخرة فأدهى وأمرّ؛ (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) (الشعراء: 227).
_________________________
1- مجموعة مؤلفين، الاجتياح «الإسرائيلي» للبنان – 1982: دراسات سياسية وعسكرية، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 1984، ص 28.
2- صحيفة الأخبار اللبنانية، 12/6/2015، https://al-akhbar.com/Politics/22448.
3- عربي 21، 15/9/2020. https://bit.ly/45ID2TD
4- عربي 21، 19/9/2020. https://bit.ly/486PnTk.
5- وكالة وفا، 15/9/2021. https://bit.ly/3rgIG0e
6- الجزيرة نت، 15/9/2022. https://bit.ly/48cQEYX.