دق جرس الانصراف.. لملم زياد أشياءه عاجلاً، أطلق لساقيه العنان وكأنهما تتسابقان شطر الدار، على الدرج المدرسي خلَّف كل زملائه معتذراً، كانت السعادة تتحدث على وجهه فنوناً وألواناً، يلهث ليرسم بسمة على أجمل الورود وأعطرها «ثغر أمه» التي لا تكفَّ في مصبحها وممساها عن تذكيره بحلم أبيه الشهيد، وتحضه على الدرس والتعلم ليشق لنفسه بين تضاريس الأيام مستقبلاً يزدهي بأعلى الدرجات العلمية، ويرفل في عباءة بذل النفس من أجل فلسطين.
يصعد درج الدار عاجلاً، يدق الباب دقات متتابعة، ينفرج الباب عن بسمة أمه المعتادة:
– أمي، أمي لقد حصلت على الدرجات النهائية في اختبارات الشهر.
احتوته أمه بين ذراعيها منتظمة معه كل عالمه الصغير المحبور:
– حبيبي، كم تسعدني في نهاية كل شهر، وكل عام منذ كنت تلميذاً بالصف الأول الابتدائي وحتى اليوم وأنت في الصف الأول الإعدادي! من أجل خاطرك سأصنع لكم الآن الحلوى التي تحبها.
قبَّـل رأسها:
– جُـزيتِ خيراً يا أماه.
– هيا الآن لتبتاع الأشياء التي سأصنع لكم بها الحلوى.
أنقدته ما يبتاع به، تعلقت أخته الصغيرة بثيابه، وضعت راحتها اليسرى في يمناه باطمئنان تام، قبض عليها بحب وحنو، تسابقا هابطين على الدرج.
ابتاعا ما أرادا، استدارا عاجلين محبورين، يمما شطر الدار.
فجأة وقعت الواقعة، زُلْزِلت غزَّة، ارتجت الأرض من تحتها وعلا أزيز طائرات صهيون في سمائها النازفة يصب حمم الحقد والباطل وعدم الشرعية، كانت طائرات صهيون تحلق بكثافة كعادتها منذ دقائق، لم يأبه لها لكثرة الأمر وتكراره، وبين دخان وغبار يحجبان الرؤية، وصراخ وضجيج يصمَّـان الآذان شق زياد طريقه بأخته، لحظات وتوقف لاهثاً مذهولاً مفزوعاً مدققاً متسائلاً:
– ما هذا؟ ماذا حدث؟ أين الدار؟!
وبين سحب ثخينة من دخان وغبار لمحها أثراً بعد عين، اختلطت أنقاضها وركامها بأنقاض وركام المقر الأمني المجاور، صرخ:
– أمي.. أختي.. أخي.. جدتي..
لا ريب.. جميعهم شهداء تحت أنقاض وركام أحقاد يهود، تذكر أخته الصغرى، لم تكن في بؤرة تفكيره، إنها بيده تصرخ صرخات هستيرية فزعاً ودهشاً، يوشك قلبها أن يتوقف، بملء وعيها كانت تفهم ما ترى، وتدرك ما يدور، ضمها لصدره سريعاً في محاولة لبثها أماناً من نفس تفتقده.
تحجرت عبراته في مآقيه، تأبّت على السيل، صرخاته تدوي داخله، تزلزله، تتدافع لتصل إلى فيه، وأنف المزيج المتدفق من وجدانه وأحزانه راغم ألْفَى نفسه يكظمها، يعيدها داخله إلى الكمون فوق النار، يوماً ستخرج حمماً عارفة هويتها وخطاها..
رفع رأسه، أرسل نظراته بعيدًا، لم تكن نظرات مهزومة، كانت تطفح بالتحدي، وتنضح بالرغبة في الانتقام.
امتدت بعيدًا في الفضاء الرحيب، ترسل شواظاً من لهيب، صوب «تل أبيب».
_________________________
قصة «نظرات غير مهزومة» من مجموعة «تحت المساحيق».