إن التاريخ المعاصر لا يمكنه أن يتجاوز هذا التاريخ 7 أكتوبر 2023م، الذي بدأت معه موازين القوى في المراجعة والتفنيد والتأرجح نحو ثوابت الماضي، أو ما كان يظن أنه ثوابت، إن موازين القوة غير التي عرفناها ودرسوها في كتب الإستراتيجيات العسكرية، وصدروا نتائجها للعقل الإنساني عامة والعقل العربي والمسلم خاصة، إن مراجعات جارية ولازمة لما تم اعتباره ثابتاً وجازماً في مفاهيم القوى العالمية وعناصر القوة ومتغيراتها.
اعترف العدو الصهيوني أنه لم يواجه يوماً منذ نشأته (المغتصبة للأرض) عام 1948م، مثل يوم 7 أكتوبر 2023م؛ حيث انقلب الكيان المغتصب وتحولت عناصر القوة لديه (الجيش الذي لا يُقهر)؛ الأدوات الاستخبارية والتكنولوجية الفائقة المراقبة والتجسس، مراكز البحوث الإستراتيجية والفكرية التي يفوق عددها نظرائه في الدول العربية، بالإضافة إلى الكفاءات المزعومة والعقول النخبة أو الصفوة التي تقوم على تلك المراكز.
انقلبت كل هذه الأدوات والمراكز من عناصر لتبيت قوة العدو الصهيوني إلى معالم الانتكاسة الكبرى في تاريخه، لا يستطيع أن يرممها على مدى التاريخ، هذا لو بقي بقدر ما عاش وهو أمر لا يتوقع.
لقد أعلنوا هزيمتهم؛ حيث إنهم بكل ما يملكون لم يفلحوا في توقع مفاجأة 7 أكتوبر 2023م العظيم، وأُعلن في هذا اليوم الموت لمراكزهم الإستراتيجية، وأدواتهم الاستخبارية وغطرستهم السياسية.
إن حصار غزة المتواصل والمستمر على مدى 20 عاماً وزاد في العقد الأخير بغلق الأنفاق شريان الحياة كان الظن بأنه عامل للضعف والاستضعاف والتحكم في كيان المقاومة ومشروعها الإستراتيجي، ولم يفطن من قاموا بذلك الغلق والإحكام وقطع مصادر الإمداد، أن أصحاب المشاريع الرسالية هم أصحاب عقول مبدعة ونفوس صادقة مشرقة، تمكنهم من إيجاد البدائل، البديل تلو البديل، وكان في ذلك قوة عظيمة، حيث لم يتحكم العدو الصهيوني من مراقبة –عبر جواسيسه وأدواته- ما يدخل إلى غزة من مواد ومنابع للعمل المقاوم العسكري العظيم، حيث كانت البدائل مخفاة عن أعين الأعداء والجبناء جميعهم، كذلك فإن إرادة التحدي تولِّد لدى المظلوم طاقات مضاعفة للعمل من أجل إنجاز الهدف المشروع.
لقد تحول حصار غزة من عنصر ضعف إلى مصدر للقوة والتحدي، ومظهر للصمود أمام العالم الجبان الذي لا يعرف إلا لغة القوة لا لغة الحق، وظن أن القوة هي الحق، لا أن الحق هو الحق، لقد انهزمت معادلة أن القوة هي الحق، وانتصرت معادلة أن الحق هو القوة.
إن مركزية الحق في تغيير موازين القوى وميزان القوة أمر لا ينبته إليه في الدراسات التحليلية والإستراتيجية والعسكرية والاستخباراتية، وذلك في مقابل ترجيح عناصر القوة المادية، وهذا الاعتقاد انقلب على رأسه يوم 7 أكتوبر 2023م، فكانت مركزية الحق هي المبادأة بطلبه والعمل بكل قوة لاستعادته إلى أهله.
إن توافق فضيلة الشجاعة مع أصحاب الحق لم تدخل بعد في إستراتيجيات العدو ولا مختبرات العلوم العسكرية، التي يقابلها رذيلة الجبن عند المغتصب مهما بدت قوتهم المادية، لأنهم يستندون إلى قوة خارجهم، لكن أصحاب الحق يستندون إلى قوة داخلهم، وهذا ترجيح أصيل لميزان القوة.
وقد ظهر في قوة لا تتجاوز 1000 مقاوم استطاعت أن توقف عمل 11 موقعاً عسكرياً، منها الفرقة المركزية للعدو الصهيوني، والوصول إلى أماكن استخباراتية وشل حركة الاتصال والتواصل في ساعات معدودة.
إن مفاجأة العدو لم تكن في التوقيت ولا الكيفية –وإن كانتا غاية في الأهمية- لكن إرادة التحدي الشجاعة والإيمان بالحق، التي ظهرت بها المقاومة يوم 7 أكتوبر العظيم كانت المفاجأة الأكبر التي لم يستطع العدو استيعابها حتى الآن وربما لن يستطيع أبداً.
إن العالم الآن يعيد ترتيب أوضاعه الداخلية والخارجية في ضوء السابع من أكتوبر، وهذا ما تزخر به الصحف العالمية وما خفي من تبدلات وتغييرات من سياسات وإستراتيجيات ومختبرات تفكير وقواعد للتقييم ومؤشرات للرصد هي أكبر بكثير من كل معلن.