كانت اتفاقية أوسلو عام 1993م بمثابة إعلان لنهاية الانتفاضة الأولى للفلسطينيين وتأسيس السلطة الفلسطينية بصفتها الكيان الحاكم الوحيد للشعب الفلسطيني، كما اشترطت الاتفاقية اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بحق «إسرائيل» في الوجود، ونتيجة الإخفاق في تنفيذ اتفاقية «أوسلو» بسبب التأخيرات وكذلك التوترات الناجمة عن تضييق الخناق المستمر من «إسرائيل» على الفلسطينيين، بلغ السيل الزبى واندلعت الانتفاضة الثانية في خريف عام 2000م؛ وهي فترة شهدت موجة مقاومة فلسطينية عارمة، أدى ذلك إلى قيام «إسرائيل» بتحصين حدودها مع غزة وانسحابها في عام 2005م من المنطقة بالكامل بعد احتلال دام قرابة 40 عامًا.
ومن هنا، فمن المتوقع أن تنتهي الحرب بشكل يرضي الطرف الأمريكي و«الإسرائيلي»، وتؤدي دول إقليمية دوراً كبيراً في هذا السياق، ومن هنا نستطيع القول: إن هناك أكثر من 13 جولة بين «إسرائيل» والعرب خلال العقود الخمسة الماضية، كان أولها حرب عام 1948م التي ضاعت فيها نصف فلسطين، وفي عام 1956م دخلت مصر والشام وحدث العدوان الثلاثي على مصر، أما في عام 1967م فقد أجهزت على البقية من فلسطين، ووضعت القدس تحت الحماية، وما بين حربي 1967 و1973م حدثت حرب الاستنزاف، وجاء نصر أكتوبر ليتوج مرحلة جديدة في العسكرية المصرية، والعسكرية الأمريكية و«الإسرائيلية»، وبدأت فكرة النصر بلا حرب مع الدول العربية، وفي عام 1982م تم اجتياح لبنان وظهور المعسكر الإيراني الداعم لبعض الفصائل الفلسطينية واللبنانية، حتى قدوم عام 1987م والانتفاضة في غزة والضفة وبداية جديدة رائعة للمقاومة، لتكون حرب أمريكا على العراق عام 1991م، ثم انتفاضة عام 2000م في غزة والضفة لتؤكد حق الشعب في تقرير مصيره، لتأتي حرب غزة الأولى عام 2008م، وحرب غزة الحالية، لنخرج بأهم نتيجة تاريخية بأن الصراع مع «إسرائيل» حتمي، وبأننا نملك خيار المواجهة، وقد مررنا بأكثر من 13 جولة مع الكيان الصهيوني المغتصب، يعني كل 5 سنوات تنشب حرب، فهي حرب واحدة ووقائع ثابتة تنتقل بشكل دوري، ويدخل فيها السوريون واللبنانيون والمصريون والعراقيون، لكن حرب غزة الأخيرة لها أبعاد مختلفة ودروس سياسية قد تأخذ منحى آخر خلال الأعوام القادمة، ونستطيع أن نلخصها في الآتي:
– أمريكا استفادت من إستراتيجية حرب أفغانستان وخاصة في التعامل مع جميع جماعات العنف مثل «القاعدة» و«داعش»، وتملك إستراتيجية أكثر مواءمة من «إسرائيل» في التعامل مع حركات المقاومة، ومن هنا سوف تنتج خبرات جديدة في التعامل مع «حماس» والمقاومة في حالة عدم القدرة على الدفع البري في العمق داخل غزة، وسيكون لها تأثير في الداخل الفلسطيني بشكل كبير.
– حرب غزة أكدت بما لا يدع مجالاً للشك أن انهيار فكرة تقدم الغرب وقدرته على إحداث التغيير أو الشروع في سلام عاجل وشامل يمثل حل الدولتين فكرة واهية ولا أساس لها من الصحة.
– تقدم فكرة المقاومة على الأرض بعيدة عن أي فصيل سياسي أو تحت عباءة أي أيديولوجية قائمة، وهو ما بدأ في جنين وانتهى في قطاع غزة، قبله المجتمع الفلسطيني ومن ثم الشعوب العربية بأكملها، وهو بداية لانهيار الأيديولوجيات القديمة، وظهور تيارات فكرية جديدة على الأرض.
– أكدت الحرب انهيار منظومة الدفاع «الإسرائيلي» وأسطورة الجيش الذي لا يُقهر.
– كما أكدت قدرات المواطن الفلسطيني على الصمود تجاه التحديات المعيشية والإنسانية الصعبة، وهو ما أذهل الخبراء السيسيولوجيين في العالم.
– سقوط كثير من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، وتقدم وسائل الإعلام غير التقليدية، مع انحياز واضح من خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي المعروفة إلى صالح «إسرائيل»؛ مما يدفع إلى إيجاد وسائل إعلامية جديدة وبديلة تنقل الخبر وتتعامل بشكل دقيق وفعال كل يوم بتقديرات موقف من الداخل الغزاوي عبر مساحات إعلامية مشتركة جديدة.
– ظهور مؤسسات سياسية ودينية عديدة على قدر الحدث، وانتقلت كثير من مواقفها عبر آليات تواصل إعلامي مختلفة.
– أكدت كثير من المشاهد القتالية من المقاومة تجاه الصهاينة أنها غير إيجابية، ويجب عدم تصدير المشاهد الإنسانية والقتالية المباشرة الصعبة؛ لأنها تحدث في العقل الجمعي العالمي رد فعل عكسي مما يضر بالقضية الفلسطينية.
– عدم الاهتمام بالدعاية الصهيونية وعدم التأثر بها، لأنها أثبتت أن دعاية العرب والمسلمين في هذه الحرب كانت أقوى بكثير مقارنة من حرب غزة عام 2008م؛ مما قلب الرأي العام العالمي على «إسرائيل» وعزز فشل الحرب البرية.
– سقوط دعوى حقوق الإنسان الغربية التي تتبناها في سياق دفاعها ودعمها لبعض الجماعات الهامشية والمتطرفة في العالم العربي.
– تراجع الثقة العربية في الولايات المتحدة، فقد تراجعت عدة مرات بعد حرب أكتوبر 1973م، وها هي تتراجع بعد حرب غزة 2023م باعتبارها الحليف الرئيس للصهيونية.
– شكلت الحرب ضربة لمشروع دمج «إسرائيل» في المنطقة (فكرة التطبيع) الذي كانت تقوده الولايات المتحدة، وقد أظهر فشل «إسرائيل» في تحقيق نصر حاسم في الحرب، ومن هنا ظهر ضعف مشروع الدمج والتطبيع عبر المشاريع الاقتصادية المختلفة.
– عامل المفاجأة والتحضير والتنسيق الدقيقين في فعل المقاومة أدى إلى شعور نفسي كبير بالارتياح لدى الشعوب العربية أفرغته المشاهد الحزينة للشهداء من محتواه في نفس الوقت الذي اعتبرت بعض أجنحة المثقفين العرب أن الحرب التي شنتها «حماس» على الكيان الصهيوني كانت حرباً مندفعة وغير محسوبة وغير مأمونة العواقب.
– أدركت الولايات المتحدة حجم الضعف «الإسرائيلي» وهشاشتها، وقد أدى ذلك إلى زيادة كلفة الدعم الأمريكي والغربي لـ«إسرائيل»، في محاولة للحفاظ على وجودها.
– أظهرت الحرب البون الشاسع بين موقف الشعوب وموقف الحكومات من القضية الفلسطينية، فقد ظهرت احتجاجات شعبية واسعة في العديد من الدول العربية، تطالب بمناصرة الشعب الفلسطيني بينما اكتفت الحكومات بالمواقف الشكلية وبيانات التنديد.
– خبرة التاريخ تؤكد أن الحرب العالمية الأولى خرجت بمؤشرات ظهور عالم متعدد الأقطاب، وخرجت الحرب العالمية الثانية بعالم ثنائي القطب، وخرجت حرب غزة الأخيرة بعالم متعدد الأقطاب خلفه عالم ثنائي القطب.
– حرب غزة أوجبت عدم الاعتماد بشكل كبير على التكنولوجيا الحديثة، فطرحت سؤال: ماذا لو استيقظنا ولم نجد الحياة الحديثة؟ ماذا عن البديل في التعامل مع الواقع والاتصالات؟ لأنه يسهل السيطرة عليه بسهولة عن طريق قطع هذه الوسائل (الإنترنت مثلًا).
– أخيرًا: لا يمكن النظر إلى التاريخ باعتباره جزراً معزولة منفصلة بعضها عن بعض، لكنها حلقات متصلة كالمتوالية الهندسية تماماً، ومن هنا تحترم الجماعات الإنسانية القوي والفاعل ومن يحمل أيديولوجية مناضلة، ومن يملك خيار المواجهة وله عمق تاريخي على الأرض، من يفرض شروط اللعبة سينتصر، ومن هنا فموعد الانتصار لم يحن بعد بشكله الجذري، لكنه ليس ببعيد وعلى ما يبدو أن «طوفان الأقصى» بدأ يكون حاضراً في معادلة التاريخ والجغرافيا في الأيام القريبة القادمة.