في ظل العدوان الغاشم من الكيان الصهيوني المحتل لأهل غزة خاصة وفلسطين عامة، انتشرت بعض الأصوات ممن ينتسبون إلى العلم جلهم من الدعاة الذين يشككون في مشروعية المقاطعة الاقتصادية لمنتجات الكيان الصهيوني، سواء في الأرض المحتلة، أو من منتجات شركات الصهاينة حول العالم خاصة في أمريكا، وكذلك الشركات التي تعلن صراحة دعمها للكيان الصهيوني وتعلن ولاءها وانحيازها له، وقد تبعت ذلك الشركات التي تشتري حق الامتياز منه في بلادنا العربية، وقد استند المشككون في مشروعية المقاطعة الاقتصادية إلى عدة أمور، أهمها:
– أنها مخالفة لولي الأمر، وقد قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) (النساء: 59).
– أن هذه الشركات لها تمثيل تجاري في بلاد المسلمين، وأن من يعملون فيها من المسلمين، ومن يمتلكونها في بلادنا هم مسلمون، وهذا إضرار بالشركات في بلاد المسلمين.
– أن كثيراً من الشركات العالمية خاصة المطاعم والمقاهي المشتهرة خرجت ببيانات تعلن أنها لا تدعم الكيان الصهيوني، وأنه لا علاقة لهم به، بل أعلنت الشركات المحلية التي تشتري حق الامتياز من الشركات العالمية تخصيص تبرع لأهل فلسطين.
تأصيل موجز للمقاطعة الاقتصادية
أولاً: مقاطعة العدو المحتل لبلاد المسلمين في كل البضائع التي من شأنها أن تقوي شوكته في حربه على المسلمين واجبة، والبيع والشراء معه في تلك البضائع التي يستعملها بشكل مباشر كالأسلحة أو بشكل غير مباشر كالوقود الذي يستعمله في الأسلحة ومعدات الحرب حرام شرعاً، وهذا محل اتفاق بين الفقهاء.
وقد نقل الإمام النووي في «المجموع» (9/ 432) الإجماع على تحريم بيع السلاح لأهل الحرب، ويقاس عليه كل ما يعين العدو على قتال المسلمين.
وقال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم (11/ 41): وقد أجمع المسلمون على جواز معاملة أهل الذِّمَّة، وغيرهم من الكفَّار إذا لم يتحقَّق تحريم ما معه، لكن لا يجوز للمسلم أن يبيع أهل الحرب سلاحاً وآلة حرب، ولا ما يستعينون به في إقامة دينهم.
ثانياً: أن مقاطعة المسلمين للعدو المحارب في البضائع والسلع التي لا علاقة لها بالحرب أمر مشروع بالاتفاق.
ومن الأدلة على جواز المقاطعة، ما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن ثمامة بن أثال لما أسلم سافر إلى مكة للعمرة وقال لأهل مكة: والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
بل استعمل النبي صلى الله عليه وسلم سلاح المقاطعة الاقتصادية في عدد من المواقف، منها:
– ما ورد في «مغازي الواقدي» (1/ 11): عن عامر بن سعد، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اخرج يا سعد حتى تبلغ الخرار، فإن عيراً لقريش ستمر به»، فخرجتُ في عشرين رجلاً أو واحد وعشرين على أقدامنا، فكنا نكمن النهار ونسير الليل حتى صبحناها صبح خمس، فنجد العير قد مرت بالأمس، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم عهد إليَّ ألا أجاوز الخرار، ولولا ذلك لرجوت أن أدركهم.
– ومنها ما ورد في «الحاوي الكبير للماوردي» (14/ 24): ثم غزا الثانية في ربيع، وهي غزوة بواط خرج بنفسه في مائتي رجل من المهاجرين في شهر ربيع الأول ليعترض عيراً لقريش فيها أمية بن خلف، ومعه ألفان وخمسمائة بعير، وحمل لواءه سعد بن أبي وقاص، واستخلف على المدينة سعداً بن معاذ، فعاد، ولم يلق كيداً.
كما أنه من المعلوم أن غزوة «بدر» كانت لاعتراض قوافل قريش التجارية، بل دعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم في تضييق معاشهم، كما ورد في «صحيح البخاري» (1/ 346): عن مسروق قال: أتيت بن مسعود، فقال: إن قريشاً أبطؤوا عن الإسلام، فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها، وأكلوا الميتة والعظام، فجاءه أبو سفيان، فقال: يا محمد، جئت تأمر بصلة الرحم، وإن قومك هلكوا، فادع الله. فقرأ: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ) (الدخان: 10)، ثم عادوا إلى كفرهم، فذلك قوله تعالى: (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى) (الدخان: 16)؛ يوم «بدر».
قال أبو عبدالله: وزاد أسباط، عن منصور: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقوا الغيث، فأطبقت عليهم سبعاً، وشكا الناس كثرة المطر، قال: «اللهم حولينا ولا علينا»، فانحدرت السحابة عن رأسه، فسقوا، والناس حولهم.
ولكن الاختلاف بين الفقهاء في درجة المشروعية، هل حكم المقاطعة واجب أم مندوب أم مباح؟
ثالثاً: لا يعرف خلاف بين فقهاء المسلمين في أن من قاطع فهو مثاب عند الله تعالى، لا تنازع في هذا الأمر.
رابعاً: المقاطعة تكون واجبة إذا توافر فيها أحد سببين؛ الأول: إذا أمر بها الحاكم المسلم، الثاني: لو كنا في حالة حرب ولا تحصل النكاية بالعدو إلا من خلالها.
خامساً: حال الإمام المسلم العدل أنه إذا أمر بالمقاطعة كانت واجبة، وإذا نهى صراحة لتقدير مصلحة وجب الامتثال لأمره، وإذا سكت رجع الحكم إلى تقدير المصلحة في المقاطعة للعلماء الربانيين والعلماء المتخصصين في الاقتصاد.
سادساً: جمهور الفقهاء على أن البيع والشراء مع المحارب في غير ما يستعين به في حرب المسلمين مباح، وقد ترجم البخاري في صحيحه: باب الشراء والبيع مع المشركين وأهل الحرب، وأورد حديث عبدالرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء رجل مشرك بغنم يسوقها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «بيعاً أم عطية؟»، أو قال: «أم هبة؟»، قال: لا، بل بيع، فاشترى منه شاة.
وهنا يأتي الخلاف:
هل من باع واشترى في غير ما يستعان به في الحرب حرام أم مشروع؟ هذا هو محل النزاع الدائر بين القول بالجواز والقول بالحرمة أو غيرهما من الأحكام.
أما محاولة التشكيك في مشروعية المقاطعة للعدو المحارب فهو تدليس في دين الله، وسوء فهم لأحكامه، هذا مع إحسان الظن بمن قال بمثل هذا القول، والأصل أننا نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر.
مستند مخالفة ولي الأمر
استند بعض المانعين للمقاطعة الاقتصادية من المعاصرين أنها مخالفة لولي الأمر، ولا ندري أين حقيقة هذه الشبهة، فغالب الحكومات الإسلامية إما أنها ساكتة عن موضوع المقاطعة، أو أنها تؤيد المقاطعة، بل أخذت بعض البرلمانات مع الحكومة موقفاً مؤيداً للمقاطعة الاقتصادية، ومن أمثلة ذلك مجلس الأمة الكويتي، وبناء عليه، فإن من يدعو إلى تحريم المقاطعة هو مخالفة لولاة الأمر، شاق لصف المسلمين، متأول على ولاة الأمور بالزور والبهتان، مفتر عليهم ما لم يقولوه، بل المقاطعة الاقتصادية تتوافق مع توجيهات ولاة الأمور إما بالسكوت عنه، بحيث يتخذ كل فرد ما يراه مناسباً له، أو بالتصريح والتأييد للمقاطعة، فمن لم يقاطع؛ كان مخالفاً لولاة أمور المسلمين.
ثم إن البيع والشراء من الحريات الخاصة التي لا تخضع لقانون، فمن حق أي مواطن أن يشتري ما يشاء أو يمتنع عن شراء ما يشاء، وليس هناك في الدساتير أو القوانين في بلاد المسلمين ما يوجب على الأفراد أن يشتروا بضائع معينة، أو يمتنعوا عن بضائع معينة، فالأمر متروك لحرية الاختيار، فلماذا نضيقه نحن باسم الدين زوراً وبهتاناً على الدين وعلى ولاة الأمور.
حق الامتياز والتمثيل التجاري
لا نشك في وقوع ضرر على الشركات التي تأخذ رخصة بالعمل باسم الشركات العالمية، ولكن نحن في حرب وجهاد، والقول: إن هذه الحرب ضد أهل فلسطين ولا علاقة لنا بها مخالف من الناحية الشرعية، وقد جاء في الحديث النبوي الشريف: «يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم»، فإن كان أهل غزة يجاهدون بالأصالة عن أنفسهم وبالنيابة عن الأمة، فأقل ما يمكن أن نقوم به هو قطع الانتفاع الاقتصادي للشركات التي تدعم الكيان الصهيوني حتى لو حصلت خسارة، فهذا نوع من الجهاد بالمال، كما تقلبات السوق والخسائر قد تحصل لأسباب كثيرة، وقد مر العالم كله بأزمات اقتصادية طاحنة، والأمر يخضع للموازنة بين المفاسد والمفاسد الأكبر، وقد تقرر في قواعد الفقهاء أنه يرتكب أخف الضرر لدفع أعظم المفسدتين، وهنا نتساءل: أيهما أعظم مفسدة خسارة بعض الأموال في البلاد الإسلامية لتلك الشركات، أم خسارة الأرواح التي تزهق بسبب الدعم الاقتصادي للكيان الصهيوني الغاشم المحتل المعتدي؟
لا شك أن الضرر الحاصل على الأرواح أكبر من الضرر الحاصل على الأموال، ولهذا قدم الفقهاء حفظ النفس على حفظ المال، كما هو مقرر في فقه مقاصد الشريعة.
ثم إن تشجيع تلك البضائع والسلع –مع الاختلاف الوارد في التعامل بالبيع والشراء لها- يؤدي إلى تثبيت شوكة العدو على جزء من الأمة، وهذه الأموال تشجعه على الطغيان والفساد والقتل، فهل يعقل أن نقتل إخواننا بأموالنا، تحت دعوى الكسب التجاري؟!
ثم إن المقاطعة نوع من الجهاد بالمال، وهو واجب على كل مستطيع، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما أخرج أبو داود في سننه بسند صحيح: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم».
والجهاد بالمال قد يكون من جهة الإيجاد بالنفقة في سبيل الله، وقد يكون من جهة العدم؛ وهو المقاطعة، وكل ذلك مشروع في دين الله تعالى، وهو مما يغيظ الكافرين المعتدين.
والأمر في شراء تلك المنتجات التي لا تدخل في حرب العدو أمر موكول إلى ضمير كل شخص وما يراه، إما أن يجاهد بالمقاطعة، أو يأخذ بالقول القائل بجواز المعاملة.
بيانات التبرؤ من دعم العدو
أما الاستناد إلى أن الشركات العالمية أنها لا علاقة لها بالكيان الصهيوني أو إعلانها أنها تبرعت لأهل فلسطين فهذا لم يحصل إلا بعد أن تكبدت خسائر من المقاطعة، ويمكن مراجعة سجلات علاقاتها قبل هذه الحرب ولننظر هل فعلاً كانوا يتبرعون لأهل فلسطين أم لا؟
ثم إنه ثابت ومعلن في الصحف والجرائد ومواقع الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي الإعلان عن دعم تلك الشركات للكيان الصهيوني وبنائها عدداً من المستوطنات، لكنها لما ذاقت الخسارة الاقتصادية حاولت خداع الناس أو كسب عطفهم وتعويض خسارتهم بتلك البيانات التي لا تمحو التاريخ الأسود لهم مع الكيان الصهيوني، ويمكن مراجعة التصريحات والتقارير الاقتصادية في هذا الشأن.
خلاصة القول:
إن التشكيك الفقهي في مشروعية المقاطعة لا يستند إلى رأي فقهي معتبر، ولا إلى نص محكم، ولا إلى مصلحة معتبرة، وإن الثابت شرعاً مشروعية المقاطعة، ولكن الخلاف في درجتها وفي حكم من لم يقاطع، فهذا هو محل النزاع، وقد حرر بفضل الله هنا، فليختر كل امرئ ما يحب أن يقابل الله تعالى به، وليس من الحكمة المزايدة على الحكومات التي تعلن تأييدها للمقاطعة أو تسكت عنها على أقل تقدير، وإن من الأسف أن نجد من ينبري باسم الدين ليدلس في هذه القضية على المسلمين!