بينما كنت أقرأ حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا يَنْصُرُ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا، بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ» (أخرجه النسائي)، فهمت أن ذلك يدل على أن لمعاصي العباد أثراً في تسليط عدوهم عليهم، ونيلهم منهم؛ فشعرت بعد القراءة بوخز في ضميري وأنا مهموم مغموم أتابع أخبار إخواني المسلمين في غزة وما أصابهم من مصائب جمة، فلقد مات هناك 24 ألفاً، وإذ بنفسي تلومني قائلة: يا هذا، أنت سبب فيما يحدث للأمة، وأنت سبب لما يحدث لأهل غزة!
قلت لها: أيا نفسي، كيف ذاك وأنا فرد واحد لا أملك شوكة ولا سلطاناً ولا نفوذاً؟
فقاطعتني زاجرة، إنها ذنوبك ومعاصيك وغفلتك ولهوك وعجزك وكسلك وجبنك وبخلك.
قلت لها: ولماذا تلقين عليَّ أنا باللائمة على حال الأمة؟
قالت: يا عبد الله، أين دعاؤك وصلاتك وإخلاصك؟ هل تتقي الله، وتخاف منه وحده؟ وهل تحذر الآخرة، وترجو رحمته؟ هل تصل رحمَك؟ هل تغض بصرَك؟ هل تبر والديك وتربي أبناءك؟ هل تتعامل مع زوجتك بالمودة والرحمة؟
الذنوب والمعاصي والغفلة والكسل والبخل.. سبب هزيمة الأمة
وتتساءل نفسي: هل أنت ممن يطلب العلم الشرعي؟ ويحافظ على الفرائض والسنن الراتبة؟ ويحافظ على الأذكار وورده القرآني كل يوم؟ وممن يهتدي بسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وممن حسن خلقه وقوله ومعاملته؟
قل لي: هل تعمل للآخرة؟ أم تحب الدنيا وتحب المال؟ هل تكسب من الحلال؟
ألم تسمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: «ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ، يا رَبِّ، يا رَبِّ، ومَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، ومَلْبَسُهُ حَرامٌ، وغُذِيَ بالحَرامِ، فأنَّى يُسْتَجابُ لذلكَ»؟! (صحيح مسلم).
وصاحت بي نفسي: أنت تحب المال ولذا قد تكذب وتغش وتخلف الوعد، وتكاد تأكل الربا، وتكاد تأكل مال اليتيم، ومال الورثة خاصة النساء، وماطلت في سداد ديونك، وبخلت على أهلك والفقراء.
واسترسلت نفسي تلومني: أنت تغضب، أنت تحسد، أنت تتكبر وتطلب الرئاسة، أنت تستأثر برأيك ويعجبك هواك، وتغار، وتسيء الظن.
وفضحتني نفسي أمام نفسي واتهمتني: أرى فيك فتوراً في الطاعة، وغفلة وتسويفاً، وانشغالاً بعيوب الناس، وانشغالاً بتزيين الظاهر، وجاهلية العصبية للون والقبيلة، وتشبهاً بأهل الأهواء والبدع وممن كان قبلنا، واتباعاً للشهوات، وتضييعاً للأوقات.
قلت لنفسي: ولكن أليس في الأمة كثير من الصالحين؟
قالت لي: سألتها قبلك زينب أم المؤمنين: أَنَهْلِكُ وفِينَا الصَّالحونَ؟ فقال لها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «نَعَمْ، إذا كَثُرَ الخَبَثُ» (رواه البخاري)؛ أي: كيف يُسلِّطُ اللهُ علينا الهلاكَ وفِينا المؤمنونَ الصَّالِحون؟ والخَبَثُ: الفُسوقُ والفجورُ والمعاصي.
ابدأ بنفسك فانهها عن غيّها وأصلحها وقم بفعل ما ينقصك من طاعات
قلت لها خجلاً: أيتأخر النصر عن غزة والأمة كلها بسببي أنا؛ واحد من مليارين من المسلمين؟
قالت: هذا قول الهاربين من المسؤولية، بحجة أن الآخرين سيقومون بها، ولو قال كل واحد ما قلت لانعدم العمل.
يُحكى أنه اجتمع أهل قرية واتفقوا أنهم كلهم سيطهون في الغد طعاماً، ويعرضونه على عابري السبيل، فتنتشر شهرتهم أنهم كرماء، وعند الصباح جاؤوا جميعاً، وحدثت المفاجأة، فلم يأت أي واحد منهم بطعام؛ ذلك لأنهم تواكلوا على بعضهم بعضاً.
قلت: وهل نُصاب بالمصائب من جراء الذنوب؟
قالت: ألم تقرأ قوله تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران: 165)؟ يعني: قلتم: لما أصابتكم مصيبتكم بغزوة «أُحد»، من أين أصابنا هذا الذي أصابنا، ونحن مسلمون وهم مشركون، وفينا نبي الله يأتيه الوحي من السماء، وعدوُّنا أهل كفر بالله وشرك؟ «قل» يا محمد للمؤمنين بك من أصحابك هو من عند أنفسكم، أصابكم هذا الذي أصابكم من عند أنفسكم، بخلافكم أمري وترككم طاعتي (تفسير الطبري).
قلت لها: ألا يعفو الله عني كما عفا عن الصحابة في «أُحد»؟ ثم سكتُّ برهة وقلت: ولكن كيف عفا عنهم وقد قُتل منهم سبعون، وقُتل عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكُسرت رباعيته، وشج في وجهه؟ كما في قول الله تعالى: (حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 152)؛ والفشل: الضعف والخَور، وكذلك التنازع، والمعصية وحب الدنيا، أربعة أسباب ذكرتها الآية لما حدث في «أُحد».
أجابتني نفسي: جاء عن الحسن، أن الله عز وجل أخبرهم «قد عفوت عنكم إذ عصيتموني، ألا أكون استأصلتكم»، ثم يقول: هؤلاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله، يقاتلون أعداء الله، نهوا عن شيء فصنعوه، فوالله ما تُركوا حتى غُمُّوا بهذا الغم، فأفسق الفاسقين اليوم يتجرأ على كل كبيرة، ويركب كل داهية، ويسحب عليها ثيابه، ويزعم أن لا بأس عليه! فسوف يعلم. (تفسير الطبري).
نصر الله تعالى القريب ليس لكل من ادعى الإيمان وزعم الإسلام
بدأت عيني تفيض من الدمع، وأخذ جلدي يقشعر من خشية الله تعالى، فلم أكن أتخيل أن أكون سبباً من أسباب ما يعانيه أهل غزة من كرب وإزهاق للأرواح البريئة، كنت أطرح اللوم كاملاً على الهيئات والمنظمات، والرؤساء والأمراء، والأعداء والخصماء، ولم أفكر قط في نقائصي العديدة، وذنوبي العظيمة.
فقلت لنفسي: وكيف الخلاص من هذا الغم؟
قالت: ابدأ بنفسك، فانهها عن غيّها، وعلّمها وأصلحها وقم بفعل ما ينقصك من طاعات، واهجر ما نهى الله عنه، وأخلص له العبادة والدعاء، وانصر إخوانك بغزة بكل ما تستطيع.
وتدبر قول الله تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد 11)، فإذا غيّر الناس أنفسهم بأن انتقلوا من الطاعة إلى المعصية، ومن شكر نِعَم الله إلى البطر بها، فسيغيّر الله ما بهم من النعمة والإحسان ورغد العيش يسلبهم عند ذلك إياها، وكذلك إذا غيَّر العباد ما بأنفسهم من المعصية فانتقلوا إلى الطاعة غيَّر الله عليهم ما كانوا فيه من الشقاء إلى الخير والسرور والغبطة والرحمة. (تفسير السعدي).
قلت: نعم.. سأتغير، ولا استهانة بعد اليوم بالذنوب مهما صغرت، حتى لا أكون سبباً فيما يحدث للأمة.
فقد قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ» (صحيح الترغيب).
لقد علمت الآن أن نصر الله تعالى القريب ليس لكل من ادعى الإيمان، وزعم الإسلام؛ (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور: 55).