بدأ الصراع الوجودي بين أهل الإيمان وأعدائهم منذ اللحظة الأولى حين خلق الله آدم عليه السلام، وأراد أن يكون خليفته في الأرض، فقد أُهبط إليها وارثًا عداوة الشيطان الذي أخرجه من الجنة؛ (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (الأعراف: 22)، وبقيت هذه العداوة فيه وفي بنيه من بعده جاعلة مدار الصراع حول تقبل هدايات الله أو جحودها، فانقسم على ذلك الناس إلى فريقين، متبع لها ومعرض عنها؛ (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى {123} وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه).
وقد اصطفى من ذريته أقوامًا ليبلغوا الناس بمراده عز وجل ويحملوهم عليه، وابتعثهم في كل أمة خلقها؛ (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (النحل: 36).
التأريخ للأمة هو تاريخ الأنبياء
ولذلك، فقد تمثلت الصراعات الوجودية بين الحق والباطل في كل زمان في سير الأنبياء وأقوامهم، وقد قص الله سبحانه وتعالى علينا قصصهم في كتابه، وأمرنا بأخذهم أسوة يُقتدى بهم، وأن نستلهم ما جرى معهم في معالجة ما يحدث في واقعنا؛ (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ۚ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (الممتحنة: 6)، ولذلك فإن الأمة المحمدية تعتبر نفسها التمثل الشرعي الوحيد لسلسال الأنبياء وأتباعهم، وهم لذلك أحد طرفي الصراع الوجودي مع جميع الملل والنحل التي لا يرضاها الله في هذه الأرض.
خصوصية الأمة المحمدية
وقد جعل الله لهذه الأمة خصائص دون سائر الأمم، فنبيها قد أرسل للناس عامة وليس لقومه خاصة، كما كان أنبياء الله من قبله، وهي خير الأمم، وهي الوسط الشاهدة على الناس، والناس تبع لها، وهي نصف أهل الجنة، وفيها الطائفة الظاهرة على الحق إلى قيام الساعة، كما ثبت كل ذلك في القرآن الكريم والسُّنة النبوية.
ولأجل أنها آخر الأمم، فهي التي ستشهد كبريات حوادث الصراع الوجودي بين أهل الإيمان وأعدائهم حتى نهاية التاريخ البشري على هذه الأرض.
وقد أخبرنا الوحي الشريف بما ستعايشه هذه الأمة في تاريخها من صراعات على كل الأصعدة، وصدّق الواقع ذلك كما هو مشاهَد طوال الحقب التاريخية التي عاشتها.
ولنستعرض قدرًا من هذه الصراعات الوجودية، ليُعلم أن ما نحن فيه الآن ليس بدعًا من التاريخ البشري عامة، أو حتى تاريخ الأمة المحمدية خاصة، أو شيئًا متفردًا عما سيحدث مستقبلًا مما أخبر به الوحي الشريف من صراعات وملاحم بين هذه الأمة وأعدائها على خلاف مللهم ونحلهم.
النبوة.. الصراع الوجودي الأول
لما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم كسائر إخوانه من الأنبياء ليرشد قومه إلى هدايات الله، حصل تكذيب من قومه به، وظل يدعوهم وهو بين ظهرانيهم وهم جُرَّاء عليه، راغبين في اغتياله، ساعين في تصفية أصحابه ماديًا ومعنويًا، وبقي على هذا ثلاثة عشر عامًا، حتى أذن الله له في الهجرة مع الثلة المؤمنة الصابرة ممن كانوا معه في مكة، ثم الجهاد بهم وبمن أسلموا في الأرض الجديدة في المدينة، إلى أن جاءت الغزوة الكبرى الفارقة في بقاء هذه الثلة المؤمنة أو زوالها وهي غزوة «بدر»، حتى إذا اصطف فيها الجيشان «نظر النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّمَ إلى أصحابِهِ وهُمْ ثلاثمائةٍ ونَيِّفٌ، ونظر إلى المشركينَ فإذا هُمْ ألفٌ وزيادةٌ، فاستقبَلَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّمَ القِبلةَ، ثم مَدَّ يديْهِ وعليه رِداؤُهُ وإزارُهُ، ثم قال: اللَّهمَّ أينَ ما وَعَدْتَني؟ اللَّهمَّ أَنْجِزْ لي ما وَعَدْتَني، اللَّهمَّ إنَّكَ إنْ تُهلِكْ هذهِ العِصابةَ مِن أهلِ الإسلامِ، فلا تُعْبَدُ في الأرضِ أبدًا، قال: فما زال يَستَغيثُ ربَّهُ عزَّ وجلَّ ويَدْعوه حتى سَقَطَ رِداؤُهُ»(1)، حتى أنجز الله له ما وعده، فانتصر في هذه الغزوة الكبرى، وأصبحت علَمًا في تاريخ الإسلام ونقطة فارقة فيه.
وبقي في ذلك الصراع على مجرد وجود الإسلام والثلة المؤمنة به في المدينة خمس سنين حتى ألجأه وأصحابه إلى أن يخدقوا على أنفسهم في غزوة «الأحزاب» التي اجتمع فيها عليه سائر ملل الشرك حينئذ، ثم هزم الله الأحزاب عنه.
وانتقل الصراع إلى مرحلة أخرى وهو غزو المشركين في عقر ديارهم، وبقي على هذا بقية عمره صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عليه أكثر جزيرة العرب، وأتاه الناس يدخلون في دين الله أفواجًا، وكان هذا علامة موته صلى الله عليه وسلم(2)، فلحق بالرفيق الأعلى في العام الحادي عشر من الهجرة، ثم لم يلبث حتى ارتدت العرب.
الردة والغزو من الداخل
دخل المسلمون في صراع جديد مع من ارتدوا عن الإسلام بالكلية، فاتبعوا الأنبياء الكذابين كمسيلمة، والأسود العنسي، وسجاح، أو من ارتدوا عن شرائعه متمثلة في حق الله في أموالهم من الزكاة، وقد كان المسلمون قبلها إبان نهاية العهد النبوي يجهزون الجيوش لغزو الروم، ومع هذا فقد فتحت عليهم بذلك جبهة أخرى تغزوهم من الداخل، وقد كانوا حينئذ في قلة شديدة؛ فلم يثبت على الإسلام في جزيرة العرب سوى أهل المدينة ومكة والطائف وبعض القبائل حولهم فحسب، ولكن الله قد وفقهم لإنهاء هذا الصراع الوجودي في سنتين من خلافة خليفة رسول الله أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ليبتدئوا بذلك مرحلة أخرى من مراحل الصراع وهي عزو الإمبراطوريتين العظميين اللتين كانتا قطبي العالم حينئذ وهما الفرس والروم.
___________________
(1) أخرجه مسلم (1763).
(2) فسرها بذلك عبدالله بن عباس كما روى البخاري في صحيحه (4430).