منذ خلق الله تعالى الإنسان وهو يسعى إلى وضع أنظمة تسمح بإدارة الاجتماع وتنظيم العلاقات بين البشر، حيث ظهرت الأنظمة البدائية العشائرية والقبلية والإقطاعية، ثم ظهرت أنظمة أكثر تطوراً؛ مثل النظام الإمبراطوري والملكي والجمهوري وغيرها، وهي أنظمة قد تقترب من العدل وتحققه لمواطنيها أو تجانبه، ولذلك صار البحث مؤخراً عن صيغة نظام يحقق العدل والمساواة والرفاه لمواطنيه تحت اسم «الحكم الراشد»، وهو مصطلح معاصر ظهر في نهايات القرن الماضي نتيجة قصور الإدارات الحكومية في معظم البلدان وعجزها عن مواجهة الفساد وتحقيق التنمية، ومنذ ذلك الحين اعتمد في أدبيات ووثائق الأمم المتحدة والمنظمات الدولية وغدا أحد المفاهيم الأممية الشائعة.
تتباين تعريفات الحكم الرشيد وتتفاوت فيما بينها لكن هذه التعريفات تتفق أنه يشير إلى نظام حكم قائم على الاختيار الحر، ويخضع للمساءلة القانونية، ويعمل على رعاية مصالح مواطنيه دون تمييز عرقي أو ديني، ويستهدف تحقيق الرفاه الاقتصادي لهم.
وعلى الرغم من حداثة المفهوم، فإن له جذوراً في الخبرة التاريخية الإسلامية، إذ نعت المسلمون حقبة الخلفاء الأربعة بالخلافة الراشدة، والرشد في اللغة يطلق على معاني الاستقامة والهداية وإصابة الحق والصواب، ونقيضه الغي أو الضلال، وهو يستند إلى نصوص قطعية من القرآن والسُّنة، وخبرة تاريخية تم خلالها ترجمة النصوص القطعية، وقواعد وأطر نظرية وضعها الفقهاء لضبط العلاقة بين الحاكم والرعية.
أيُّ دولةٍ يتحقق معها الصلاح فهي شرعية بغض النظر عن صورتها إمبراطورية كانت أم مَلَكية أم إمارة
وتشكل تنظيرات الفقهاء معيناً صالحاً يمكن الإفادة منه في ضبط العلاقة بين الحكام والمحكومين في كل عصر بشروط، منها: الفهم العميق لنصوص الفقهاء ومرادهم وفق مقتضيات عصرهم، والفهم الدقيق لمقتضيات الواقع المعاصر، ومحاولة الوصل بين النص التراثي والمعارف الحديثة لأجل تطوير بنية النظرية السياسية الإسلامية.
وبصفة عامة، أفاض الفقهاء في بيان ماهية نظام الحكم الذي يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، ويسترعي النظر أنهم ناقشوا جوهر الحكم ولم يتوقفوا أمام عوارضه، فاعتبروا أن أي دولة مهما كانت يتحقق معها الصلاح فهي شرعية بغض النظر عن صورة تلك الدولة إمبراطورية كانت أم ملكية أم إمارة، كما أفاضوا في الحديث عن المقومات التي يتأسس عليها هذا الحكم الراشد، وذكروا في ذلك أموراً كثيرة، منها:
– الاختيار الحر للحاكم ومحدودية صلاحياته:
وقد ثبت هذا المبدأ واقعياً من خلال عملية اختيار الخلفاء الأربعة، وتقرر نظرياً في المباحث التي صاغها الفقهاء في كتب الأحكام السلطانية تحت بند «الإمامة» وتوصيفها بأنها «عقد» لا بد فيه من طرفين، والعقود لا تقوم إلا بالتراضي، وأنه يقوم على الاختيار الحر، والخليفة أو الحاكم بمقتضى العقد ليس بمعصوم ولا هو مهبط الوحي، ولا من حقه الاستئثار بتفسير الكتاب والسُّنة، بل هو وسائر طلاب الفهم سواء، إنما يتفاضلون بصفاء العقل، وكثرة الإصابة في الحكم، كما أن طاعته ليست مطلقة؛ فهو مطاع ما دام على المحجة ونهج الكتاب والسُّنة، فإذا فارق الكتاب والسُّنة في عمله وجب عليهم عزله، كما يقول الإمام محمد عبده.
– الشورى:
إذا كانت الخلافة هي نيابة عن صاحب الشرع، أو كما عرفها الماوردي بالقول: «الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا»، فمن الضروري تأمل الممارسة السياسية النبوية التي قامت على مبدأ الشورى، فكم من مرة استشار الرسول أصحابه في أمور الحرب والسياسة! وكم من مرة عدَلَ عن رأيه لصالح رأيٍّ أشار به أحد أصحابه ورأى فيه مصلحة عامة للجماعة! لذلك ذهب الفقهاء إلى أن أهم ما يجب على الإمام المشاورة في كل: ما لا نص فيه عن الله ورسوله، ولا إجماع صحيح يحتج به، وفي طرق تنفيذ النصوص إذ هي تختلف باختلاف الزمان والمكان.
الشريعة الإسلامية حددت قواعد الحكم الرشيد في الاختيار الحر والعدل والشورى والحرية والمساءلة
وبهذا المعنى هو ليس حاكماً مطلقاً، بل هو مقيَّد بالكتاب والسُّنة والشورى التي ثبتت بالنص القرآني والممارسة النبوية، وقد ذهب بعض علماء السلف إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان غنياً عن المشاورة، ولولا إرادة جعلها قاعدة شرعية لما أمره الله بها، ومما تجب ملاحظته في هذا السياق أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يضع إطاراً مؤسسياً تمارس الشورى من خلاله، وإنما ترك توجيهات ومبادئ عامة؛ وما ذلك إلا لاختلاف النظم باختلاف العصور واختلاف أحوال الأمة، بحيث يتعذر وضع إطار يناسب جميع العصور والأحوال، وإلا أهدرت المصالح وضُيِّق على الناس في أمور تدبير اجتماعهم الإنساني.
– العدل:
وهو القيمة المركزية الكبرى في الإسلام، وقد حث الله تعالى عباده على إقامة العدل بينهم، يقول الله تعالى: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل: 90)، واستناداً لهذا ذهب الفقهاء الذين بحثوا في أحكام الخلافة إلى أن هناك «دار العدل»؛ وهي دار الإسلام التي نصب فيها الإمام الذي يقيم ميزان العدل بين الناس، وهي واحدة من أهم مهامه، ويقابلها «دار الجور والبغي»؛ وهي ما كان الحكم فيها بغير ما أنزل الله؛ أي من غير العدل.
والعدل إنما يكون في القضاء والتحاكم، وتوزيع الثروات العامة وتلقي الخدمات العامة، وإتاحة الفرص دون تمييز، وبغير العدل يكون الظلم؛ «والظلم منذر بخراب العمران»، كما قال ابن خلدون، ومن لوازم العدل المساواة أمام القانون دون تمييز بين مسلم وغير مسلم، وقد أقرت الشريعة مبدأ التساوي بين الخصمين أمام القضاء بصرف النظر عن ديانتهما، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تعد وتحصى في كتب الفتاوى والقضاء.
– الحرية:
وهي أيضاً قيمة إسلامية وضرورة من ضرورات الوجود والاجتماع الإنساني، وقد وردت مشتقات الحرية عدة مرات في القرآن، مثل: الحر وتحرير ومحرراً، وقد ضرب القرآن مثلاً يعبر عن أهمية الحرية وأثرها على اختيار الإنسان، فقال تعالى: (ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) (النحل: 75)، والحرية هي مناط التكليف؛ إذ لا تكليف إلا مع الحرية، والكثير من التكاليف تسقط حال العبودية والإكراه، وكفل الإسلام الحريات كافة بما فيها الحرية السياسية التي تشمل فيما تشمل حرية التعبير عن الرأي وحرية انتقاد الحاكم والدعوة إلى مساءلته وعزله إن أخطأ، وبهذا التشديد على الحرية قوض الإسلام دعائم الاستبداد السياسي.
خلاصة ما سبق، أن الشريعة الإسلامية أرست قواعد الحكم الصالح الرشيد وحددتها في الاختيار الحر للحاكم والعدل والشورى والحرية والمساءلة والشفافية وما إلى ذلك، وهذه القواعد تتوافق مع المحاولات المعاصرة لبناء ما سمي بالحكم الرشيد.