تأسيس نظام الخلافة وإقرار حق الأمة في اختيار قادتها
إن المسلمين، رغم عظم مصيبتهم في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، لم يشغلهم ذلك عن النظر في مستقبلهم، وقد كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة، فاجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة للتباحث في الأمر، فكان اختيار أبي بكر الصديق رضي الله عنه أول الخلفاء الراشدين في اليوم الذي قُبض فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل أن يُدفن جسده الشريف، في ممارسة شورية رائعة.
وأكد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حق الأمة في اختيار خليفتها، فقال: «من بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين، فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تَغِرَّة (أي: مخافة) أن يُقتلا»، وظلت الشورى وسيلة لتولي الخليفتين من بعده.
الشورى لم تكن عملاً سياسياً يستدعيه الناس حين يموت الخليفة بل كانت منهجاً للحكم
ملازمة الشورى واتساع مجالها
لم تكن الشورى عملاً سياسياً يستدعيه الناس حين يموت الخليفة أو يحضره الموت، بل كانت منهجاً للحكم، وشواهد ممارسة الخلفاء للشورى في حكمهم أكثر من أن تُحصى، وكان أمير المؤمنين عمر يُحضر الشباب النابهين مجالس شوراه ويقول: «لا يمنع أحدكم حداثة سنه أن يشير برأيه، فإن العلم ليس على حداثة السن وقدمه، ولكن الله يضعه حيث يشاء»، وتزداد دوائر الشورى لتسع وضع الخطط العسكرية للوصول إلى أفضلها، والمسائل الفقهية التي جدّت، وكان أبو بكر إذا أتته المسألة جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به، واستشار عمر في حد الخمر، بل كان يشاور النساء في بعض ما يخصهن؛ فيأخذ برأيهن.
الحفاظ على وحدة الدولة الإسلامية
وأدرك أبو بكر الدوافع السياسية لحركة الردة، وأنها تعني تفكيك الدولة لصالح القبلية، فواجهها في قوة وحسم، ولما عزل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، خالد بن الوليد عن القيادة العامة للجيش، أراد بعضهم استثارة حمية خالد للتمرد، فكان رده: «أما وابن الخطاب حي فلا»، وهي رواية شديدة الدلالة على حرص القوم؛ قادة وجنداً، على وحدة الدولة وطاعة الخليفة، حتى في حالات الغضب التي قد تطيش فيها الأحلام.
توازن الحقوق والواجبات بين الخلفاء والرعية
أدرك الخلفاء أن اختيار الأمة إياهم لا يضفي عليهم قداسة ولا عصمة، وقد قال الصِّدِّيق في خطبته لما تولى الخلافة: «إني ولِّيت عليكم ولست بخيركم»، وأعلن عمر في بدء خلافته أنها ابتلاء ابتلاه الله به، وأنه أجير عند الأمة، ولا غرو فالأمة -ممثلة في قادة الرأي فيها- هي التي فرضت للخلفاء أجورهم، كما حدث في مطلع خلافة أبي بكر، وعمر، ولما حضرت أبا بكر الوفاةُ أمر برد جميع ما أخذه من أجر لبيت المال، ومما يدل على مفصلية هذا الأمر في النظر إلى سمات عصر الراشدين أن عمر سأل يوماً سلمان الفارسي: أملك أنا أم خليفة؟ فأجابه: إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهماً أو أقل أو أكثر، ثم وضعته في غير حقه، فأنت ملك غير خليفة.
الخلفاء الراشدون أدركوا أن اختيار الأمة إياهم لا يضفي عليهم قداسة ولا عصمة
وطاعة الخليفة واجبة، في غير معصية، وكان ذلك نهج الراشدين في الحكم، فقال أبو بكر: «أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم»، وقال عمر: «إنه لم يبلغ حق ذي حق أن يُطاع في معصية الله»، وأقرَّ الخلفاء بحق الرعية في نقدهم وتقويمهم، فقال أبو بكر في خطابه الأول: «إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني»، وروى البخاري في «التاريخ الكبير» أن عمر سأل أصحابه عما سيفعلون إن مال بهم عن الحق؟ فقال بشير بن سعد: لو فعلت قومناك تقويم القدح، ولما قال رجل لعمر: اتق الله! قال عمر: «لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نقبلها منكم»، ولا حرج على الخليفة أن يعترف بخطئه إن استبان له، فقد كتب عثمان بن عفان إلى أهل الكوفة في أمر عتبوا عليه فيه: «إني لست بميزان لا يعول»؛ أي لا يميل.
وتتجه أصح الروايات إلى أن سعداً بن عبادة، مرشح الأنصار للخلافة يوم السقيفة، لم يبايع أبا بكر، ولا عمر من بعده، وتذكر روايات البخاري أن علياً بن أبي طالب وجماعة من بني عبد مناف قد امتنعوا عن بيعة الصدِّيق بالخلافة حتى وفاة فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم بعده بستة أشهر، ثم بايعوا، وقد استوعب الوعي السياسي في ذلك الوقت هذا الخلاف، ولم يرَ فيه ضرراً، إذ تكفي مبايعة الجمهور أبا بكر، «ولا يلزم الإجماع»، كما يقول ابن تيمية، وقد مزق عمر كتاب الخليفة أبي بكر الذي يعطي أرضاً لعيينة بن حصن زعيم فزارة، إذ انتفت الحاجة إلى تأليف قلبه بعد أن قرّ قرار الإسلام، فقال عيينة لأبي بكر شاكياً: أما أنت الأمير أم عمر؟ قال: «بل هو إن شاء الله».
وعارض عدد من الصحابة رأي عمر في إبقاء الأراضي المفتوحة وقفاً على المسلمين، وأرادوا قسمتها كما تقسم الغنائم المنقولة، واشتد الأمر على عمر حتى دعا الله أن يكفيه هؤلاء، وفي خلافة عثمان تجاوزت المعارضة دائرة النصح والضجر إلى دائرة الغضب والثورة التي انتهت بقتل الخليفة، واستمر النزاع المسلح في خلافة عليّ بن أبي طالب فأثمر ثمرته المرة في الحروب بين المسلمين.
مواكبة التوسع الكبير للدولة
منذ أن بدأت حركة الفتوحات تؤتي ثمارها جدَّت احتياجات؛ واجتهد الراشدون في مواكبتها، منها نهج التفويض الإداري الذي اتبعه أبو بكر في إدارة الجيوش الفاتحة، كما فعل مع خالد بن الوليد، فأطلق طاقات الفاتح العظيم، ولما استخلف عمر كانت سياسته تتجه إلى الضبط المركزي إزاء فتوحات استقرت، ودولة ترامت أطرافها، وقادة كبار لاح خطر الافتتان بهم.
منذ أن بدأت الفتوحات تؤتي ثمارها جدَّت احتياجات واجتهد الراشدون في مواكبتها
ولم تحُلْ هذه السياسة دون إدراك الخليفة حتمية تغير منهج إدارة البلاد المفتوحة وإن خالفه، كما يتضح في إنكاره على معاوية أمير الشام، إذ كان يغدو في موكب، ويروح في مثله، ويقف ذوو الحاجات ببابه؛ فاحتجَّ معاوية بكثرة عيون العدو، ووجوب إشعارهم بهيبة الحكم، فتركه وما يراه، كما احتفظ عمر بكبار الصحابة إلى جواره ليفيد من آرائهم، وولى إمارات البلاد من هو أقل في أعين الناس، وأطوع له في الإدارة.
وأدرك عمر أهمية بناء أمصار جديدة تبعاً لحاجات الدولة المتنامية، فأمر ببناء البصرة والكوفة والفسطاط، أما الأوليان فللحاجة إلى وجود معسكرات مستقرة للجيوش؛ قريبة من ساحات الجهاد، وأما الفسطاط فجعلها عاصمة جديدة لمصر؛ درءاً لخطر الإقامة في الإسكندرية لموقعها البحري المعرض للغزو.
مواجهة نتائج التحول إلى دولة عالمية
تحولت دولة الإسلام إلى دولة عالمية، مما أنتج تغيرات في موازين القوة والفعالية السياسية؛ إذ تقلصت أعداد السابقين إلى الإسلام، بالموت والانسياح مع الفتوح، وكانوا عماد الدولة، وحملة الرسالة الأصلاء، فسعى عمر إلى تقديمهم، والحفاظ على مكانتهم وتأثيرهم، من خلال تنظيم ديوان الجند، وإعطائهم أعظم الأنصبة المالية، غير أن ظهور الفعالية السياسية للقبائل العربية، وتزايد تأثير الأمصار الجديدة، كان يفرض واقعاً جديداً، فاشتد ضجر الأمصار من أمرائهم بالرغم من كثرة تغييرهم، فكانوا «لا يرضون عن أمير، ولا يرضى عنهم أمير»، كما أدرك عمر خطر تكوّن أرستقراطية قرشية تحظى بأعظم العطاء فتثير أحقاد القبائل، فأعلن أنه إن عاش إلى العام القادم سيسوِّي بين الناس في العطاء، لكن وافاه أجله.
السمة الأشد ظهوراً كانت تطور مفهوم أهل الحل والعقد فلم يعودوا السابقين إلى الإسلام
وكانت السمة الأشد ظهوراً هي تطور مفهوم أهل الحل والعقد، فلم يعودوا أهل «بدر» والسابقين إلى الإسلام، بل تراجعت أعداد هؤلاء وتأثيرهم، وبرزت زعامات القبائل والأمصار، صاحبة الدور الأكبر في الفتوح وتحقيق موارد الدولة، وكانت الثورة على عثمان واستشهاده في عاصمة الدولة على أيدي جماعات من هؤلاء إعلاناً للواقع الجديد، وبالرغم من ذلك بقيت محاولات الراشدين الاعتماد على السابقين الأولين، فلم يسلِّم عثمان لإرادة الثائرين عزله، لأنهم ليسوا أهل الحل والعقد، ولم يرض عليٌّ بمبايعتهم إياه من بعده، وقال: «إن هذا الأمر ليس لكم، إنما هو لأهل بدر»، لكنه اضطر إلى التسليم بحتمية التغيير، وانتقل بالخلافة من المدينة إلى الكوفة مبرراً ذلك بأن المال والرجال بالعراق.
وأدرك الراشدون أيضاً آثار ظهور جماعات ضخمة من الموالي والرقيق لا عاصم لهم ولا ناظم، إذ لا ينضوون تحت التنظيم القبلي للجماعة المسلمة، وقد انضم كثير منهم إلى الثائرين على عثمان فشكلوا عنصراً شديد الخطر لا عهد للدولة به، كما أصبحوا عماد القوى العاملة للمجتمع بسبب اكتفاء العرب بتشغيل مواليهم في أسواقهم، وقد عبَّر عمر عن مخاوفه لما رآهم معظم مَنْ في السوق، فقال لصاحبه: «إن ذلك لو استمر ليحتاجنَّ رجالكم إلى رجالهم، ونساؤكم إلى نسائهم»، ولما طُعن بيد أحدهم، وهو أبو لؤلؤة، قال لابن عباس: كنت أنت وأبوك تحبون أن يكثر العلوج بالمدينة!
لقد أدرك عمر خطر هذه المشكلة قبل وقوعها، إذ كان يشفق من اتساع الفتوح مع قصور قدرات المسلمين الصادقين عن استيعاب هذه الألوف المتدافعة إلى رحم الدولة والمجتمع، ودعوتهم إلى الدين الحق، فكان يقول: «وددت لو أن بيننا وبين فارس جبلاً من نار، لا يصلون إلينا ولا نصل إليهم»! وكان ينصح العرب بعدما تضخمت ثرواتهم بأهمية الاستثمار تحسباً للمستقبل، وأن يعملوا بأنفسهم، ولا يستجيبوا لدواعي البطالة والدعة.
ومع تخوف عمر من زيادة أعداد غير المسلمين وتأثيرهم، فإنه ومن تبعه أقروا حقوقهم في الرعاية والعدل، فعمر هو الذي أعطى فقير أهل الذمة من بيت مال المسلمين، وعليّ بن أبي طالب هو الذي أمر عامله على مضر بالرفق والعدل مع الرعية من مسلمين وغيرهم، فإنهم «إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق».