روى مسلم في صحيحه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب».
فالقلب أصل الإنسان وأساسه، وهو الآمر الناهي المسيطر على الأعضاء والجوارح، فما نظرت عين ولا شمت أنف ولا سمعت أذن ولا بطشت يد ولا نطق لسان إلا بأمر من القلب؛ لذا كان لا بد من توبة لهذا القلب تنصلح بها أعماله وأعمال خدمه من الجوارح والأعضاء، ولتنصلح المنظومة الجسمانية كلها.
ولا تتم هذه التوبة إلا إذا تاب القلب من 4 أمراض، هي:
الأول: التوبة من التعلق بغير الله:
جُبل البشر على أن تتعلق قلوبهم بذوي العز والقوة، والقهر والغلبة، وتنجذب نفوسهم نحو أصحاب المال والجاه منهم، فيركنون إليهم، ويذلون لهم، ويخضعون لقوتهم وغلبتهم؛ لأنهم يبتغون منهم نفعاً، أو يخافون منهم ضراً، وهذا التعلق بهم يجعلهم دومًا أذلاء صاغرين، كما أنه من أخطر أمراض القلوب، يقول العلامة ابن القيم، عن التعلق بغير الله تبارك وتعالى: وهذا أعظم مفسداته على الإطلاق، فليس عليه أضر من ذلك، ولا أقطع له عن مصالحه وسعادته منه، فإنه إذا تعلق بغير الله وكّله الله إلى ما تعلق به، وخذله من جهة ما تعلق به، وفاته تحصيل مقصوده من الله عز وجل بتعلقه بغيره، والتفاته إلى سواه، فلا على نصيبه من الله تعالى حصل، ولا إلى ما أمَّله ممن تعلق به وصل.
فكل من تعلق به العبد من دون الله فإنه سيخذله في الدنيا والآخرة حتماً لا محالة، قال تعالى: (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً {81} كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً) (مريم: 82)، ولذا لما التقى المسلمون والتتر للقتال قام شيخ الإسلام ابن تيمية يشجع السلطان ويثبته، ويبث الحمية والغيرة في قلوب الجنود، فلما ألقت الحرب بظلالها، وتراءت الفئتان، رأى السلطان كثرة التتار، فقال: يا لخالد بن الوليد! فقال له ابن تيمية: لا تقل هذا، بل قل: يا الله! واستغث بالله ربك، ووحِّده وحدَه تُنصر، وقل: يا مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين!
وما زال يبث أنوار اليقين في الله تارة على الخليفة المستكفي بالله، وتارة على الملك الناصر بن قلاوون، ويهدئهما، ويربط جأشهما، ويزيل خوفهما، ويعلقهما بالله تعالى حتى تحقق النصر بالله تعالى وحده.
فالواجب على العبد أن يخلّص قلبه من التعلق بغير الله، ومن التعلق بالأسباب، ومن التعلق بنظر الناس، وثناء العباد ورأي الناس، وأن يجعل تعلقه بربه سبحانه وحده متمثلًا ما أثر عن رابعة العدوية في مناجاتها:
فليتك تحلو والأنام مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب
ثانيًا: التوبة من ضعف اليقين في موعود:
عندما نتأمل نصوص الترغيب في القرآن والسُّنة النبوية الصحيحة، نجد كثيرًا من الأعمال اليسيرة قد ترتب عليها أجور عظيمة كثيرة، لكن زهد فيها جل الناس لا لشيء إلا لضعف اليقين في موعود الله لعباده العاملين، ففي صحيح مسلم من حديث أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أَيَعْجِزُ أحَدُكُمْ أنْ يَقْرَأَ في لَيْلَةٍ ثُلُثَ القُرْآنِ؟»، قالوا: وكيفَ يَقْرَأْ ثُلُثَ القُرْآنِ؟ قالَ: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ»، وفي سنن الترمذي بسند صحيح، قال: «من قال سبحان الله وبحمده، غرست له نخلة في الجنة»، وقد صح عنه أنه قال: «ما من نخلة في إلا وساقها من ذهب».
وفي البخاري من حديث أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم: «مَن قالَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ له، له المُلْكُ وله الحَمْدُ، وهو علَى كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ، في يَومٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كانَتْ له عَدْلَ عَشْرِ رِقابٍ، وكُتِبَ له مِائَةُ حَسَنَةٍ، ومُحِيَتْ عنْه مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وكانَتْ له حِرْزًا مِنَ الشَّيْطانِ، يَومَهُ ذلكَ حتَّى يُمْسِيَ، ولَمْ يَأْتِ أحَدٌ بأَفْضَلَ ممَّا جاءَ إلَّا رَجُلٌ عَمِلَ أكْثَرَ منه».
أجور عظيمة فرط فيها كثير من الناس ففي ثوان معدودة يكسب المسلم مئات الكيلوات من الذهب، وفي بضع ثوان يحرز أجر تلاوة ثلث القرآن العظيم، وعلى الرغم من كل ذلك تضيع الأوقات في اللهو واللعب والمزاح والسهر، ولو ثبت اليقين في قلوب الناس بموعود الله ورسوله ما ضيعوا لحظة من العمر، وما ركنوا إلى الغفلة والكسل.
ثالثاً: التوبة من التسويف والأماني وطول الأمل:
فهذه الثلاثية الخطيرة تقتل الإيمان في القلب، وقد حذر منها لقمان في وصاياه لولده، حيث قال: «يا بني، لا تؤخر التوبة، فإن الموت يأتي بغتة، ومن ترك المبادرة إلى التوبة بالتسويف، كان بين خطرين عظيمين، أحدهما: أن تتراكم الظلمة على قلبه من المعاصي، حتى يصير رينًا وطبعًا فلا يقبل المحو، الثاني: أن يعاجله المرض أو الموت فلا يجد مهلة للاشتغال بالمحو».
فما أخطر السين وسوف، وما أخطر الاغترار بالأماني الزائفة! فقد أُثر عن الحسن البصري أنه قال: «ليس الإيمان بالتمنِّي، ولكن ما وقَر في القلب وصدّقه العمل، وإن قومًا خرجوا من الدُّنيا ولا عمل لهم وقالوا: نحن نحسن الظَّنَّ بالله وكَذَبُوا، لو أحسنوا الظَّنّ لأحسنوا العمل»، فالإيمان الذي يكرّم الله به المؤمن، ويُنجيه من النار ليس مجرّدَ كلمة يقولها بلسانه دون عمل، وليس أمنية يتمنّاها ترفع بها درجته عند ربّه، فما أهون الكلام المجرّد عن عمل يصدقه! وما أكثر الأمانيَ عند المُفلسين من كنز العمل الصالح!
ولذا جاء في الحديث: «الكَيِّس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز مَن أتبع نفسَه هواها وتمنَّى على الله الأماني» (رواه الطبراني، وأحمد والترمذي).
فلو أحسن هؤلاء الظَّنّ بالله، لاستعدوا للقائه بالعمل الصالح الذي أمرَهم به، فهو القائل: (وقُلِ اعْملُوا فسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ ورَسُولُهُ والمُؤمنونَ وستُردُّونَ إلى عالِم الغَيْبِ والشّهادةِ فيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعملونَ) (التوبة: 105)، وقد ورد أن بعض أهل الكتاب تناقشوا مع بعض المؤمنين، كل يدَّعِي أن الفضل له دون الآخر، فنزل قوله تعالى: (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً {123} وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً) (النساء)، فالمدار كلّه على العمل المبنيِّ على الإيمان وحسن الظّن بالله، ولا يغترّ أحد بما يقول بعض الشعراء:
قَدِمْتُ عَلَى الكَرِيمِ بِغَيْرِ زَادٍ سِوَى الإخْلاصِ والقَلْبِ السَّليمِ
فحَمْلُ الزّادِ أَقْبَحُ مَا يَكونُ إذَا كَانَ القُدومُ عَلَى كَريمِ
فالإفراط في الرّجاء الذي لا خوف معه يُسلم إلى الكسل وترك العمل، ويفضي إلى ضياع الإيمان.
أما طول الأمل فيكفيه أن الله عرض بذمه في كتابه فقال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد: 16).
رابعاً: التوبة من الخواطر:
الخواطر أفكار تدور في القلب، منها الإيجابي ومنها السلبي، فالخواطر هي مبدأ الخير والشر، فما من خير فعلته إلا وقد خطر ببالك أولًا، وما من شر ارتكبته إلا وقد خطر ببالك أولًا؛ قال ابن القيم: وأما الخطرات فشأنها أصعب؛ فإنها مبدأ الخير والشر، ومنها تتولَّد الإرادات والهمم والعزائم، فمن راعى خطراته ملك زمام نفسه وقهر هواه، ومن غلبته خطراته فهواه ونفسه له أغلب، ومن استهان بالخطرات قادته قهرًا إلى المهلكات.
والخواطر البشرية تعد متنفساً للإنسان، فقد خلق الله النفس البشرية شبيهة بالرحى الدائرة التي لا تسكن ولا تتوقف، فكان لا بد لها من شيء تَطحَنه، فإن وُضِع فيها حَبٌّ طحَنته، وإن وُضع فيها تراب أو حصى طحنته، والأفكار والخواطر التي تَجول في النفس هي بمنزلة الحَبِّ الذي يُوضع في الرحى، فمِن الناس مَن تطحن رحاه حبًّا يخرج دقيقًا ينفع به نفسه وغيره، وأكثرهم يطحن رملًا وحصى وتبنًا، ونحو ذلك، فإذا جاء وقت العجن والخبز تبيَّن له حقيقة طحينه.
وإذا كان الأمر كذلك علم أنه لا بد من وجود الخطرات، وأن الإنسان لن يستطيع إيقافها أو إماتتها لأنها تهجم عليه هجوم النفس الشرود لكن العبد بقوة إيمانه ويقينه بربه يتقبل أحسنها وينأى عن قبيحها وسيئها، لا سيما إذا شغل العبد نفسه بالحق والخير دائماً، فالنفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، والخاطر إذا وَجَد نفسًا فارغة تمكَّن منها، ووضع فيها سمومه، وصدق من قال:
أتاني هواها قبلَ أن أَعْرِفَ الهَوى فصادَف قلبًا خاليًا فتَمَكَّنا
وبعد، فهذه رباعية التوبة لقلب يريد السلامة والصلاح، فتوبة القلب وصلاحه واستقامته لا تتم إلا إذا تاب العبد وتخلص من هذه العوارض المهلكة، والأمراض المفسدة.