يحتل شهر رمضان المبارك مكانة خاصة عند الشعب اليمني، يتفرد بها بين شعوب العالم الإسلامي في جميع المناحي الاحتفالية التي يستقبل بها هذا الشهر المعظم، حيث تتزين الشوارع وتشعل القناديل والأضواء، وتدق الطبول، وتنشد الأناشيد والأهازيج؛ فرحاً وابتهاجاً بالشهر الكريم قبل مجيئه، فتبدأ الاحتفالات به من منتصف شهر شعبان.
ورمضان في اليمن شهر التكافل والتسامح والإفطارات الجماعية والزينة الرمضانية، وكل مظاهر الاحتفاء والتقدير وربما التقديس أحيانًا لعظمته، فهو يوحد اليمنيين بكل قبائلهم، وعشائرهم، وأحزابهم، وطرقهم الصوفية، وحركاتهم الإسلامية، في لوحة فنية واحدة، تجمع الكل تحت شعار التسامح والتسامي والحب.
احتفالات في ليلة الشعبانية و«المُمَسي» يقرع أبواب المنازل
وتتميز العادات والتقاليد اليمنية في رمضان بشكل كبير عن سائر أيام السنة، سواء بأسلوب الحياة خلال الشهر المبارك، أو بالأكلات والمشروبات المتنوعة التي يتم الحرص على توفيرها بشكل خاص لهذا الشهر.
واستمرت مظاهر استقبال رمضان في اليمن رغم ظروف الحرب والوضع الاقتصادي الصعب بفضل المكانة الدينية الكبيرة للشهر الكريم لدى اليمنيين الذين يعتبرونه شهر الرحمة والتكافل والصدقات، وهذه المكانة المقدسة تتعاظم كونهم يمارسون فيه شعيرتي الصوم والزكاة، وهما ركنان من أركان الإسلام.
ليلة «الشعبانية»
يحرص اليمنيون في شهر شعبان من كل عام على إحياء طقوس شعبية متوارثة، يطلق عليها في أغلب المدن اسم «الشعبانية»، وهي طقوس تتنوع باختلاف المناطق، وتمتزج فيها الاحتفالات بين أهازيج شعبية، وأمسيات أدبية، وتوشيحات إسلامية، وموائد للأكلات الشهية في أجواء من الروحانية يمتزج فيها الفرح مع الابتهال إلى الله بقرب دخول شهر رمضان.
وأصبحت «الشعبانية» تقليدًا سنويًا محفورًا في ذاكرة الصغار والكبار، ومرتبطًا بليلة النصف من شهر شعبان، ففي نهاره يصوم الناس، وبعضهم يسبق ذلك بصيام يوم قبله ويوم بعده إيماناً ببركة اليوم، وفي ليله تنطلق الفعاليات التي أبرز مظاهرها حلقات الذكر والدعاء وقراءة القرآن.
إنهاء الخصومات بين أبناء القبائل المختلفة خلال الشهر الفضيل
وأضفت الأسر اليمنية في المناطق المختلفة طابعًا مميزًا إلى ليلة «الشعبانية»، ففي إب وتعز ووسط اليمن يرتدي الأطفال الثياب الجديدة، وتضفر الأمهات جدائل الصغيرات، ويرسمن الحناء على أكفهن، وينتظر الناس «المُمَسي»؛ وهو شخص يقرع أبواب المنازل ومعه فرقته، يدقون الطبول، ويُسمعُون الأسر طرباً شعبياً، ويمدحونهم بكلمات بسيطة وعفوية.
وفي تقليد شعبي تظهر «الجونية والشوالة»، أو لعبة مصنوعة على هيئة جمل من ناحية، ومن ناحية أخرى يظهر «الجمل الأكبر»، بالأحياء الشعبية، وهو الجمل الرسمي الخاص بالاحتفال بالشعبانية، وهو يصنع بعناية ويعلق عليه علم اليمن ويلبسه أشخاص كبار، ويتبعه حشد من الناس يدورون معه في أرجاء القرية أو المنطقة ليلاً.
وفي إقليم تهامة تعتبر «الشعبانية» طقوسًا شعبية أكثر منها دينية، فهي مناسبة فرائحية سنوية تقام في السهل التهامي كاملاً.
أهازيج الأطفال
تبدأ مراسم استقبال شهر رمضان بتجول الأطفال بين المنازل بالأهازيج والأناشيد الترحيبية بهذا الضيف المبهج الذي يضفي على حياة الناس أجواءً روحانية، ويمنحهم فرصة للامتثال لتعاليم الدين في الصوم والابتعاد عن كل الخطايا والآثام، وتزين المنازل، وتطلق الألعاب النارية، وتنطلق الأسر لشراء «الراشان»، وهو اسم يطلق على مجموعة من السلع والمواد الغذائية التي يتم شراؤها استعدادًا للشهر، إلى جانب شراء المأكولات التي يكثر الإقبال عليها بهذا الشهر كالباجية أو الطعمية والبن والشعيرية.
ويتم التبشير برؤية هلال شهر رمضان في اليمن عبر وسائل الإعلام الرسمية، التي ينتظر أمامها المواطن اليمني بلهفة لمعرفة ما إذا كان ذلك اليوم هو المتمم لشهر شعبان أم بداية لرمضان، ليتوجهوا عقب ذلك للمساجد لصلاة التراويح مع أطفالهم، وبعض النساء كذلك في الجوامع التي يتوفر فيها مصلى لهن، وتبدأ بعد ذلك الطقوس والعادات المختلفة التي يتميز بها هذا الشهر.
روحانية وتجارة وعلم
ومن مظاهر الترحيب بقدوم شهر رمضان تنظيف الشوارع والأحياء، وتزيين المنازل بالأهلة والمصابيح الورقية والكهربائية، حيث يحرص الأطفال والنساء على تجهيز وصناعة متطلبات التزيين وكتابة العبارات الترحيبية والمعبرة عن معاني الشهر الفضيل، ونشرها في الغرف والممرات كتقليد سنوي يعبر عن سعادتهم بقدوم الشهر.
حلقات علم لحفظ القرآن الكريم ومدارسة سيرة النبي وإقامة المسابقات
ورمضان ليس فقط موسم عبادات، فهو موسم تسوق بالنسبة للتجار لا يقتصر على احتياجات الشهر الكريم والمائدة الرمضانية المتنوعة في اليمن وأدوات الزينة، بل يضاف إلى ذلك أنه موسم تسوق لاحتياجات عيد الفطر المبارك من ملابس ومكسرات وغيرها، ويحرص أصحاب المحال التجارية على تزيين واجهات محالهم والشوارع بالإضاءات والزينة المختلفة، وهو ما يخلف انطباعاً لدى الجميع أن موسم الخيرات والعبادات قد هلّ بأجواء روحانية تستحق أن يضاء لها الكون إلى جانب القلوب.
وتزدهر في شهر رمضان حلقات العلم لحفظ كتاب الله الكريم وتعاليمه، وتقديم الدروس الدينية لتوضيح معاني القرآن والاستفادة من سيرة النبي عليه أفضل الصلاة والتسليم.
حلويات يمنية
والسفرة ليمنية غنية بصنوف الطعام الشهي، وتُعد وجبة «الشفوت» من أبرز المأكولات التقليدية التي لا تخلو منها أي مائدة إفطار رمضاني في اليمن، وهو طبق يتمازج فيه الخبز أو اللحوح مع اللبن (الزبادي أو الحقين)، وتدعمه المرأة اليمنية ببعض الخضراوات فتضفي عليه نكهة خاصة، وتعد ربة المنزل حلويات خاصة مثل الرواني والشعوبية وبنت الصحن، وهي من أشهر الحلويات الشعبية، وتعمر سفرتها بالسنبوسة والطعمية أو الباجية والمهلبية، إضافة إلى القهوة التي تعتبر مشروبا مميزًا يقدم مع التمر في أثناء الفطور أو السحور.
وتلتزم الأسر اليمنية بعادات صحية في رمضان، حيث تختلف مواعيد الوجبة الرئيسة بين أهل اليمن ودول أخرى، فبينما اعتادت معظم الأسر في بعض الدول الإسلامية على تناول وجبتهم الرئيسة كاملة عقب أذان المغرب مباشرة في الفطور، يؤجلها اليمنيون إلى ما بعد صلاة التراويح ويطلقون عليها «العَشَاء»، بعد أن يكونوا قد تناولوا وجبات خفيفة في موعد الإفطار تتنوع بين التمر والشفوت والسلطات والباجية والسنبوسة.
بر وتكافل
يتحول ليل رمضان لدى اليمنيين إلى نهار، فإضافة إلى تبادل الزيارات، يقومون بإحياء تلك الأوقات بإقامة مسابقات دينية في بعض المناطق.
ويحرص أهل اليمن في رمضان على تبادل الزيارات والأطعمة فيما بينهم، لتقوية أواصر المحبة، وهو فرصة بالنسبة لهم لحل كثير من المشكلات الاجتماعية، وغالباً ما يجتمعون للإفطار معاً، أو بعد صلاتهم للتراويح، كما يتبادلون الأحاديث المختلفة في أجواء سعيدة، فيما يتحلق البعض حول شاشات التلفاز لمتابعة البرامج والمسلسلات الرمضانية.
ويستغل أبناء اليمن هذه الأجواء الروحانية التي تسود الشارع اليمني في الشهر الكريم، حيث يقوم رجال الدعوة وزعماء القبائل بإنهاء الخصومات بين أبناء القبائل المختلفة أو داخل القبيلة الواحدة على موائد إفطار مشتركة، في استغلال أمثل للأجواء الروحانية التي يسودها هذا الشهر.