طرح العدوان «الإسرائيلي» على غزة إشكالية غياب التقدم والأخذ بأسباب الحداثة على مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وأظهرت «إسرائيل» للعالم كله أنها باستخدام أحدث منتجات العلم، وخاصة تقنيات الذكاء الاصطناعي، تقود حرب التقدم في مواجهة قوة الإيمان والعقيدة، وهو ما كشف أن التسلح بالإيمان يستلزمه تسلحًا موازيًا بالتقدم والأخذ بأسباب العلوم الحديثة حتى لا يسجل الجبناء والمرتعدون نصرًا زائفًا على المتقين الذين يحبون الشهادة أكثر مما يحب هؤلاء الحياة.
ويربط المتابعون بين زيارة الأمريكي إيلون ماسك، صاحب أكبر منتجات الذكاء الاصطناعي في العالم، ومعه رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو إلى غزة، والقرار الأمريكي «الإسرائيلي» في التحول من الحرب البشرية إلى الحرب الإلكترونية التي تعتمد على امتلاك هذا التحالف لكل أسباب التقدم والحداثة في مواجهة اجتهادات منفردة يقوم بها أبطال المقاومة في هذا المجال في ظل غياب منظومة عربية عن حقول الحداثة والتقدم في العالم.
ومن خلال هذه المتابعة الدقيقة يمكننا أيضًا أن نرصد تلك الحرب التقنية العالمية الدائرة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، حيث تلاحق واشنطن كل محاولات بكين الأخذ بأسباب التكنولوجيا وإجهاضها، وحتى منع تطبيق «تيك توك» الصيني من التداول داخل أمريكا، والسيطرة على تايوان لمنع حصول الصين على مدخلات الرقائق الإلكترونية التي تساعد على امتلاك تلك التقنيات الحديثة.
وكشفت تحقيقات استخبارية أمريكية أن الصين نجحت في اختراق الأمن القومي السيبراني الأمريكي، وأنها تهدد دول العالم باختراق قواعد بياناتها السرية.
وهكذا لا يبدو أنه يمكن بناء مشروع نهضوي حضاري حقيقي يحمي شعوبنا ومقدراتنا ويضمن لنا البقاء على هذه الخارطة القومية دون أن يكون هناك مشروع حقيقي للتقدم والأخذ بأسباب الحضارة والحداثة منذ ما قبل المدارس وحتى المراحل الجامعية.
وفي هذا الإطار يطرح خبراء التعليم طريقين متوازيين للوصول بمجتمعاتنا إلى سلم التقدم الحضاري، هما:
الأول: طويل الأمد:
وهو يعتمد على تغيير المناهج الدراسية من مراحل الروضة بحيث تتضمن الاطلاع على كل العلوم والتطبيقات الحديثة للتكنولوجيا والتقنيات المتقدمة، مع وضع مناهج تضمن محو الأمية الإلكترونية، وضمان عدم تسرب الأطفال من المراحل الدراسية؛ مما يرفع من منسوب الأمل في صناعة أجيال تكون على قدر كبير بالمعرفة لأسباب العلم والحداثة.
وفي هذا الاتجاه أيضًا يقع دور مواز على عاتق وسائل الإعلام المختلفة لتحويل العلوم والتقنيات إلى ثقافة عامة تنافسية يُقبل عليها الجميع بدلًا من تقديمها باعتبارها مناهج معقدة لا يمكن للأطفال استيعابها.
وعلى الرغم من قيام بعض المدراس الأجنبية في بلاد العرب بالتركيز على اللغات الأجنبية، ودراسة علوم الحاسب الآلي، فإن المنتج التعليمي النهائي لدى العرب غير كافٍ ولم يستطع بعد أن يحصل على أي مساحة متميزة في العالم، وهو ما يعني أننا نعتمد على أسلوب العزف المنفرد دون أن يكون هناك نظام عام جامع يضع خططاً لكيفية استثمار هذه العقول وتشغيلها لتصبح إضافة إلى دولها ومجتمعاتها.
وقد أسهم غياب منظومة مجتمعية لاستثمار تلك العقول على قلتها في هجرة أصحابها إلى الدول الغربية، وأصبح حال الأمة وكأنها في حالة خدمة دائمة للمشروع الحضاري الغربي، وفي حالة تجفيف دائمة لأسباب التقدم والحداثة.
الثاني: قصير الأمد:
ويرى خبراء التعليم والتربية أنه مع ضرورة التوسع الأفقي في تدريس مناهج العلوم والحاسب الآلي، والبرمجيات، والذكاء الاصطناعي، وجميع فنون الاتصال الحديثة في مدارسنا وجامعاتنا يستلزم أيضاً وضع خطط قومية ومحكمة لاستثمار العقول النابهة التي تنتجها جامعاتنا ومناهجنا، ووضعها في إطار بحثي وعلمي وإنتاجي وتسويقي يضمن لها بيئة صالحة للبقاء في بلادنا، واستثمار ذلك في الحصول على خطوة نحو التقدم والحداثة.
وكانت الهند برغم انتشار الأمية بها، وارتفاع عدد السكان ليقتربوا من ميار ونصف مليار نسمة، قد نجحت في تطبيق خطة تضمنت نشر كشافين عن العباقرة في المدارس والجامعات، والاستفادة منهم في ترأس جميع الوحدات الإدارية والخدمة في البلاد.
وقد أثمرت الخطة حضوراً كبيراً للشباب الهندي الذي يجيد البرمجة واللغات؛ مما دفع الشركات الكبرى في العالم لتحويل مقارها الرئيسة إلى الهند للاستفادة من عمالة رخيصة وشديدة التميز في العلوم الحديثة والبرمجيات واللغات.
خطة عربية
ووفقًا لخلاصات مئات البحوث والتوصيات التي ناقشت أسباب أزمة التعليم والتقدم في البلدان العربية، فإن غياب منهج عربي موحد، وعدم وجود خطة علمية لاستثمار العقول، مع غياب ثقافة التقدم والحداثة؛ كل ذلك أسفر عن هذا التدهور العربي الكبير في حقل التقدم والحداثة، حتى تحولت الأمة إلى مجرد مستهلكين لمنتجات غربية صنعت ثقافة تقوم على التفاخر بين الشباب وفئات المجتمع المختلفة حول امتلاك المنتج الأحدث للتكنولوجيا، كما أن أجيالنا تحولت إلى مجموعات من الأسرى بأيدي تلك الأجهزة التي لا نعرف منها إلا استهلاك واستعمال ما يقدمه لنا المشغل دون تفاعل أو محاولات للتقليد أو الإنتاج أو المنافسة.
وفي الختام، يجب ألا يركن مفكرونا عند التفاخر بحضارتنا القديمة التي كنا نسود بها العالم رغم اعتزازنا بذلك، إلا أننا يجب ألا ننسى أن من أسباب تخلفنا الآن على الركب الحضاري هو الحديث كثيرًا عن أمجاد الماضي دون أن نستخلص منها العبر ونشحن أنفسنا منها بالإرادة، والإصرار على أن نحصل على مقاعدنا في هذا العالم المتناهي السرعة والتقدم.