في هذا الوقت الحساس من تاريخ الأمة التي واجه فيها المشروع الإسلامي كثيرًا من المشكلات والتحديات، يطفو على الساحة السؤال القديم الجديد: ما الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه؟ وكيف الخلاص؟
وفي تفسير أسباب شق السؤال الأول وتفصيله ومن ثم الإجابة عن شقه الثاني، سُوِّدت صفحات ونشرت كلمات وحصلت تضحيات، وقام على ذلك كله جيل بعد جيل، وما زال الأمر قائمًا حتى وقتنا هذا، وللفت النظر إلى واجب عظيم وهو ترشيد ذلك كله كانت هذه الكلمات.
نشأة المشروع الإسلامي المعاصر
السبب الواضح المباشر لنشأة المشروع الإسلامي المعاصر بتمثلاته المختلفة من تيارات وجماعات وأحزاب إسلامية هو إلغاء الخلافة العثمانية عام 1924م، فحينما فقد المسلمون جامعتهم وتُركوا ليواجهوا مصيرهم في كبرى المسائل كوجوب الخلاص من استعمار الدول الغربية، والحفاظ على وحدة المسلمين، وعودة الإسلام وأحكامه إلى واقع الناس، ورد عادية الغزو الفكري عنه، وغير ذلك؛ لم يجدوا أمامهم سوى الاجتماع بشكل جزئي على تلك الأهداف، فكانت هذه التكتلات على مختلف أشكالها.
وقد دفع ذلك في نظر أصحابه طبيعة الإسلام من حثه على الاجتماع في الاعتصام بأوامره؛ (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) (آل عمران: 103)، وما هو من ذلك، لكن ذلك لم يمنع من وجود حالة الافتراق الشديد بين من سلَّموا بصحة هذه المقدمة الأولى.
الافتراق قدر الأمة
مما لا يجوز إنكاره حدوث الافتراق في هذه الأمة واقعًا، وقد ذكرت الشريعة هذا من باب الخبر لا الأمر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والَّذي نفسُ محمَّدٍ بيدِهِ لتفترِقَنَّ أمَّتي علَى ثلاثٍ وسبعينَ فرقةً»، قيلَ: يا رسولَ اللَّهِ، مَن هم؟ قالَ: «الجماعَةُ» (رواه ابن ماجه 3241، وصححه الألباني)، وبين ما هو من قدر كوني وهو الافتراق، وأمر شرعي وهو الاجتماع؛ حصل ويحصل ما هو واقع، فإن الاجتماع الصحيّ لا يحدث إلا بتقرير أصول يُجتمع عليها، ومن هنا بدأ الإشكال.
الاجتماع على الإجماع
في الآية والحديث السالف ذكرهما إشارة إلى وجوب الاجتماع على الأصول المُجمع عليها زمن النبوة وخلافة الراشدين في صدر الإسلام، وقد فصَّلت الشريعة في ذلك بكثير بيان ودقيقه، وهذا تحديدًا هو المنجي لطائفة من الأمة من الضلال الذي ينال غيرها رغم دخول الجميع في مفهوم الأمة وكونهم مسلمين موحدين، وفي تحديد هذه الأصول وقع الخلاف منذ الصدر الأول، وألقى الأمر بظلاله على ما هو أخص منه في الواقع المعاصر عند المتبنين للمشروع الإسلامي متمثلًا في تعيين وسائل التغيير، أو بالأحرى تحديد ما يجب الاجتماع عليه منها وما يسع فيه الخلاف، ولعل ذلك من أظهر ما اختلف عليه أبناء هذا المشروع، فكثرت فيه التنظيرات والتقعيدات والنقودات.
الترشيد الدائم خصيصة هذه الأمة
وقد جعل الله هذه الأمة خير الأمم بخصيصة ما إن فرطت فيها بقدْر فقدت من خيريتها بقدره؛ ألا وهي دوام فعل الإصلاح بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال سبحانه وتعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ) (آل عمران: 110)، ولا شك أن أولى المعتنين بذلك من جهة إصلاح أنفسهم هم من حملوا راية الإصلاح ودعوا إليه، وبالرغم من هذا فإننا نجد تقصيرًا بالغًا في اعتبار أهمية ذلك ابتداءً فضلًا عن إنفاذه واقعًا، وندر أن نجد المراجعات الفكرية الصادقة لكثير من الأفكار والتحيزات عند المتبنين للمشروع الإسلامي، مع أن أبسط دلائل أهميتها الظاهرة هو اتساع الافتراق على كثير من الأصول وتطبيقاتها ووسائل التعاطي مع الواقع في ضوئها، فضلًا عن تباين المواقف تجاه قضايا الأمة كبيرها وصغيرها.
ولعل من أسباب الأمر الثقة الزائدة في النفس أو المُصدَّرين التي تتهاوى أمام ظهور المشكلات في واقع الأمة التي لم تُحلّ بعد، والفتور العلمي والعملي الذي نال مجموع الأمة تجاه قضاياها وشكَّل المرض العضال في جسدها بالتفريط في تداعي بعضه لبعض.
ولا شك أن الدفع في اتجاه الترشيد -العلمي منه والعملي- يسهم بدرجة كبيرة في تغيير واقع الأمة إلى الأصلح سواء لها أو للبشرية جمعاء.
معالم وثائق الترشيد المطلوبة
وأنسب الوثائق المطلوبة لترشيد المشروع الإسلامي التي تسهم في تغيير واقع الأمة الآن هي التي تراعي 3 مستويات؛ الأول: ما يمس حال أصحاب المشروع الإسلامي أنفسهم، والثاني: ما يمس معرفة الواقع بدقة، والثالث: ما يمس وسائل إصلاحه.
أما الأول: فإن سببًا رئيسًا لغياب وثائق الترشيد هو عدم إرادة الكثيرين للتعرض لهذا الأمر، فإنه يصعب على أكثر النفوس مواجهة أنفسها بأخطائها، لا سيما إن كانت أخطاءً شائعة مشهورة لا يُنزع عنها في العادة، بل تكون أحيانًا عَلَمًا على بعض التجمعات، كمشكلات الحزبية والانتكاس والتعصب والغلو والنفعية والسطحية والاستعلاء على المسلمين والافتتان بالدنيا والتخلي عن المسؤولية وغياب التأصيل الشرعي في الأحكام وسوء الخلق والتماهي بين الدين والجماعة وغياب إدارة الخلافات الداخلية والتقوقع على الذات وتنميط المخالفين والاختلاف على مفهوم الأمة وما يحويه، وغير ذلك كثير.
وكلٌ قد بُث في مقالات المصلحين داخل أصحاب المشروع الإسلامي، لكنه مرفوض في الأغلب الأعم حتى قبل قراءته ومناقشته، وهذا هو المبدأ الأول الذي إن سُلم به بوجود المشكلة فقد انتهى نصفها، ويبقى النصف الآخر في معرفة الواقع وما يُصلحه.
أما الثاني: فإن الإسلام دين واقعي، نزل من السماء ليضبط أحكام الأرض، وقد كان خُلق نبيه صلى الله عليه وسلم القرآن، وامتلأ القرآن نفسه بحكايات أعداء الله كفرعون وعباد الأصنام والملائكة والنجوم والمكذبين للأنبياء، بل ورصد واقعهم وأفكارهم وأقوالهم، وكل ذلك لينتبه المسلم إلى معرفة واقعه الذي تعبده الله بتغييره، وإلا صار بلا قيمة أمام ما ابتعثه الله لأجله، ومشكلة كبرى أن يغيب أصحاب المشروع الإسلامي عن معرفة واقعهم بدقة، فلن يُصلح قط من لا يعرف موطن الخلل.
وأما الثالث: فإن الاختلاف الواسع بين أصحاب المشروع الإسلامي في وسائل التغيير يجزم بخطأ أكثرها على الأقل، ولوجود وثائق الترشيد غاية وهي التفتيش حول تلك الثمرة التي يفتقدها جموع المسلمين الآن، فبين من يدعو لإقصاء أفكار وممارسات صالحة لخلافه معها، ومن يدعو إلى تكامل بين متناقضات؛ يضيع الترشيد المطلوب.
إن هذا الكلمات لا تضع حلًا سحريًا لما نحن فيه من مشكلات، وإنما تلفت النظر إلى باب يجب أن يُطرق عند المنادين بالمشروع الإسلامي واستعادة الحكم الرشيد، ولا شك أن الأمة تحتاج إلى كل جهد لإيجاد تلك الوثائق، وأن تتضافر حولها العقول حتى تخرج في أكمل صورة ممكنة، لعل الله أن يبرم بها للأمة أمر رشد يتحقق به وعده كما قال سبحانه وتعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) (النور: 55).