لقد كفل الإسلام حرية الإنسان ودعا إليها، لكنه لم يُطلِق هذه الحرية ليمارسها بلا ضابط أو حاكم، حتى لا تتحول إلى فوضى مهلكة، بل ضبطها بالقيم والأحكام التي تسهم في تحقيق الخير منها، ومنع الشر بسبب سوء استخدامها.
ولهذا أحاط الإسلام الحرية الدينية بعدد من الضوابط والضمانات، منها: الالتزام بالأوامر الإلهية، وعدم الإضرار بالنفس، وعدم الاعتداء على الآخرين.
الأول: الالتزام بالأوامر الإلهية:
الحرية الدينية لا تعني الانفلات من الأوامر الشرعية أو التمرد عليها؛ وإنما تعني «أن يفعل الإنسان ما يعتقد أنه مكلّف به، وما فيه الخير لصالح البشر أجمعين»(1)، أما أن يعيش الإنسان معتقداً أنه غير مكلف بشيء، وأنه يفعل ما يشاء ويترك ما يشاء؛ فإن هذا الأمر لا يُعَدّ حرية، وإنما هو انسياق وراء الشهوات وعبودية للأهواء والملذات، والحرية ليست وسيلة لإرضاء الشهوات وتحقيق الرغبات، بل هي القدرة على الانفكاك من كل مظاهر الأسر واختيار طريق الهداية والاستقامة عليه.
وقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على هذا المنهج، حتى جاء إليه أحدهم قائلاً: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا غيرك، قال: «قل: آمنت بالله ثم استقم»(2)، فقد جاء الصحابي الجليل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم راغبًا في التحرر من كل الأقوال إلا ما يقوله الإسلام، كما رغب في التحرر من سؤال جميع الناس إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن أرشده إلى سبيل الحرية الحقيقية وهو الإيمان بالله تعالى والاستقامة على طريقه.
وفي هذا تأكيد على أن ضبط الحرية مرهون بالتزام الأوامر الإلهية، وعدم الانسياق وراء الشهوات الجسدية.
الثاني: عدم الإضرار بالنفس:
من الضوابط المهمة للحرية الدينية أن يحرص الإنسان على حماية نفسه من الضرر، فلا يجعل من حريته وسيلةً إلى الإضرار بنفسه، فقد نهى الإسلام عن أذية المرء نفسه، حيث قال تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (البقرة: 195)، وقال أيضاً: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) (النساء: 29).
ومن الأمثلة التي تبين أن بعض الناس قد يتخذ من الحرية الدينية وسيلة إلى الإضرار بنفسه أن يشدد على نفسه في العبادة حتى يتسبب في الإضرار ببدنه، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الأمر، حين قال لعبدالله بن عمرو: «ألم أُخبَر أنك تقوم الليل وتصوم النهار؟»، قال عبدالله: إني أفعل ذلك. قال صلى الله عليه وسلم: «فإنك إذا فعلت ذلك هجَمَت عينُك ونَفِهَت نفسُك، وإن لنفسك حقاً ولأهلك حقاً، فصم وأَفْطِر وقُم ونَمْ»(3)؛ ومعنى قوله: «هجمت عينك»؛ أي غارت وضعف بصرها لكثرة السهر، وقوله: «نفهت نفسك»؛ أي أعيت وكلّت(4).
في الحديث دلالة على أن الحرية في فعل الطاعات والاجتهاد فيها يجب أن تنضبط بالمحافظة على النفس وإعطائها ما تحتاج إليه من الضرورات البشرية وعدم تكليفها بما لا يطاق، استجابة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، عليكم من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه، وإن قل»(5)، ففي الحديث حثٌ على الاقتصاد في العبادة واجتناب التعمق.
وفي هذا الحديث كمال شفقته صلى الله عليه وسلم ورأفته بأمته؛ لأنه أرشدهم إلى ما يصلحهم وهو ما يمكنهم الدوام عليه بلا مشقة ولا ضرر، فتكون النفس أنشط والقلب منشرحاً فتتم العبادة، بخلاف من تعاطى من الأعمال ما يشق فإنه بصدد أن يتركه أو بعضه أو يفعله بكلفة وبغير انشراح القلب فيفوته خير عظيم(6).
ومن الأمثلة التي تدل على أن الحرية الدينية لا تقبل أن يستخدمها المسلم في الإضرار بنفسه ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم حين نهى عن التبتل، والمقصود بالتبتل: الانقطاع للعبادة والامتناع عن قربان النساء وجماعهن مخافة أن يشغله ذلك عن العبادة، فقد روى مسلم عن سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: رَدَّ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ علَى عُثْمَانَ بنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ، ولو أَذِنَ له لَاخْتَصَيْنَا؛ أي منع الرسول صلى الله عليه وسلم سيدنا عثمان بن مظعون من الابتعاد عن زوجته وهجرها لقصد العبادة.
بل إنه صلى الله عليه وسلم قام بتعديل المسار لثلاثة من أصحابه، فهموا أن حريتهم في أداء العبادة تجعلهم يضرون أنفسهم بالانقطاع عن ضرورات حياتهم، ويدل على هذا ما رواه البخاري عن أنس بن مالك قال: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلى بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يَسْأَلُونَ عن عِبَادَةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقالوا: وأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟! قدْ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ، قالَ أحَدُهُمْ: أمَّا أنَا فإنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَدًا، وقالَ آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ ولَا أُفْطِرُ، وقالَ آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فلا أتَزَوَّجُ أبَدًا، فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليهِم، فَقالَ: «أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا؟! أَمَا واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي».
فلا ينبغي للمسلم أن يتشدد في العبادة بدعوى الحرية؛ لأن في تقييد هذه الحرية بالاعتدال حماية لنفسه من الأذى وكفالة لحريته في إمكانية المداومة على أداء ما يرغب في أدائه.
الثالث: عدم الإضرار بالآخرين:
إذا كان الإسلام قد نهى المسلم أن يستخدم حريته في الإضرار بنفسه؛ فقد نهاه أيضاً عن الإضرار بغيره، فالحرية الممنوحة للفرد لا ينبغي أن تصطدم بحرية الآخرين، إذ ليس من حق الفرد أن تؤدي حريته إلى الإضرار بالمجتمع من حوله، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار»(7)؛ والمعنى: «لا ضرر»؛ أي لا يضر الرجل أخاه فينقصه شيئاً من حقه، «ولا ضرار»؛ أي لا يجازي من ضره بإدخال الضرر عليه بل يعفو(8).
فلا ينبغي للإنسان أن يبدأ بالضرر كما لا ينبغي له أن يرد الضرر بالضرر؛ لأن هذا من شأنه أن يشيع المضار بين الناس، مما يؤدي إلى حرمان المجتمع من الأمن والسلام، وذلك بسبب استخدام الحرية الفردية في أذية الناس، فحرية الفرد تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين.
والإسلام لم يمنح الحرية للفرد على حساب حرية باقي الأفراد، كما أن الإسلام منع التعارض بين كلا الحريتين؛ حرية الفرد وحرية الجماعة، ووازن بين كلا الطرفين، فأعطى كلًا منهما حقه، واصطدام حرية الفرد بحرية الآخرين له نتائجه السلبية، ومن أهمها: أنه يؤدي إلى تناقض في المنظومة الاجتماعية لدرجة تفسخ هذه المنظومة وانحلالها تحت مطرقة الاعتداء على القيم والمثل الاجتماعية والأخلاقية باسم حرية ممارسة أي فعل، فالحرية لا تعني البتة التحرر من كل قيد لأن ذلك هو عين الفوضى لا الحرية(9)؛ إذ الحرية الحقيقية هي التي تنشر الحق والخير وتمنع الأذى والشر.
الحرية الدينية في الإسلام تنضبط بالتمسك بالأوامر الإلهية والتحرر من الشهوات الإنسانية، وتمنع من إلحاق الضرر بالنفس أو الغير.
___________________
(1) مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، علال الفاسي، ص 248.
(2) صحيح مسلم (38).
(3) صحيح البخاري (1102).
(4) فتح الباري، ابن حجر العسقلاني (3/ 38).
(5) صحيح مسلم (782).
(6) شرح النووي على مسلم (6/ 70).
(7) سنن ابن ماجه (2340).
(8) فيض القدير شرح الجامع الصغير، المناوي (6/ 431).
(9) الحرية الدينية في الإسلام، د. نصر محمد الكيلاني، ص 168.