كنا قد عرضنا في المقال السابق التوجه الثاني نحو أدبيات الخطاب الإسلامي المعاصر فيما يتعلق بمسألة صيغ الوحدة السياسية بعد مرحلة سقوط الخلافة الإسلامية، وذكرنا الصيغة الثانية وهي الوحدة السياسية والإدارية، فيما نستعرض في هذا المقال التوجه الثالث المتمثل في صيغة الجامعة الإسلامية.
التوجه الثالث: صيغة الجامعة الإسلامية:
التوجه الثالث الموجود في الخطاب الإسلامي المعاصر يؤمن بأهمية وضرورة إعادة تكتل العالم الإسلامي على أسس واضحة، قوامها الأيديولوجية الإسلامية المؤسَّسة على عقيدة التوحيد، وتوحيد الكلمة.
وأصحاب هذا التوجه لا يعترضون على فكرة الوحدات الأقاليمية الجزئية، كما أنهم لا ينفون أثر وقيمة الأعمال والجهود التي تمهد لوحدة المسلمين السياسية والإدارية الشاملة، سواء على المستوى النظري أو العملي، غير أنهم ينبّهون إلى أنها ليست الصورة النهائية لعملية الوحدة المرتجاة، بل هي مرحلة ينبغي أن يتمّ فيها تذليل العراقيل والأوهاق التي تحُول دون تبلور الصيغة الشرعية المطلوبة لوحدة المسلمين السياسية؛ كما يلاحظ أن أصحاب هذا التوجه لا يتشبثون بالتسمية التاريخية لهذه الوحدة، المتمثلة في نظام الخلافة، فالعبرة عندهم إنما تكون بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني.
الأفغاني: جعْلُ عالم الإسلام بأقاليمه وقومياته منظومة حضارية متميزة بين حضارات العالم المعاصر
لذلك نجد أن بعض أصحاب هذا الرأي يقترحون بعض التصورات والصيغ، التي قد تكون الأمة الإسلامية بحاجة إليها، في اللحظة المناسبة، التي تتهيأ فيها الظروف، وتزول فيها موانع الوحدة، وهذه طائفة نماذج من تصورات هذا التوجه:
كان أعلى صوت يحذر من عواقب وهن الأمة الإسلامية، ويدعو إلى ضرورة اتحاد العالم الإسلامي في جامعة إسلامية موحدة، داخل إطار خلافة تجعل الدين والدولة شيئاً واحداً، هو صوت المصلح المشهور جمال الدين الأفغاني، الذي يرى أنّ أضمن سبيل للوصول إلى تلك الأهداف والمقاصد الجليلة، القيام بثورة ثقافية تقرّب وجهات النظر، وتجعل المسائل الخلافية مسائل ثانوية لا مسائل أساسية لها مقام الأولوية في نشاط المسلمين الفكري والسياسي والإداري.
وذلك من أجل إعطاء قيمة ملموسة لمفهوم الجامعة الإسلامية، التي تعني في تفكيره ألا تقف علاقات الأقاليم الإسلامية والقوميات التي يضمّها عالم الإسلام عند حدود حسن الجوار، أو تحقيق بعض المصالح الأمنية والاقتصادية، وإنما التأكيد على وجود وحدة في الحضارة الإسلامية، يتجسد من خلالها مفهوم الانتماء الإسلامي، وأن يكون بمقدور هذه الوحدة جعل عالم الإسلام بأقاليمه وقومياته ومكوّناته المتنوّعة منظومة حضارية متميزة بين الحضارات القائمة والفاعلة في العالم المعاصر(1).
إن الجامعة الإسلامية التي تتضمن إحياء الانتماء الإسلامي، وتأسيس النشاط المدني والحضاري على الأصول الإسلامية، لا تلغي الوطنية ولا القومية، بل تبعثهما وتُحييهما، لكنها ترفض في وضوح الوقوف عند تخومهما؛ لأنها إطار عام شامل يجعل الفروع في خدمة الأصل، والأصل هو وحدة الأمة، وتقوية كيانها.
ومما يُحسب للأفغاني أنه أطلق صيحته إبان ترهّل الخلافة العثمانية، وبدء الحملة الغربية لتفتيت وحدة العالم الإسلامي، بالرغم أن هذه الخلافة باتت بلا مضمون رسالي خلال سنواتها الأخيرة، فإن الأفغاني حاول إيقاظ الغافلين السادرين، لعلمه بحقيقة أنّ الغرب يخشى أن تقوم نهضة جديدة في العالم الإسلامي تملأ هذا الوعاء من جديد(2).
أمة واحدة
كما يُعدّ الشيخ عبدالرحمن الكواكبي (1854 – 1902م) الرائد الثاني بعد الأفغاني في المناداة بالجامعة الإسلامية، وإعادة بعثها على أسس جديدة، بعدما آلت إليه أوضاع الأمة المسلمة على الصعيد السياسي، وما بلغته من تردٍّ شديد.
ينطلق فكر الكواكبي السياسي من مسلَّمة دينية؛ وهي أن المسلمين أمة واحدة، فكيف يمكن أن تنعكس هذه الحقيقة الدينية في نظام سياسي، يستجيب لطموحات هذه المرجعية الدينية؟
الكواكبي: بعث هيئة سياسية وإدارية تجمع أطراف العالم الإسلامي في شكل اتحاد ذي طابع فيدرالي
ويعتقد الكواكبي بأن مسألة الوحدة الإسلامية التي يفضل تسميتها بـ«الجامعة الإسلامية» أمر ضروري لا بد منه، ليس فقط لاستنادها إلى نصوص دينية قطعية، وإنما أيضاً لتعلقها بوجود المسلمين كأمة لها هيبة ومنزلة بين الأمم، غير أن الكواكبي يؤمن بأن البداية الصحيحة ينبغي أن تكون أولاً بين العرب؛ لأنهم أول من حمل راية الإسلام ولأن الوحي عربي.
ولعل هذه الفكرة هي السبب في اعتبار بعض الكتَّاب ذوي النزوع القومي الكواكبي مفكراً قومياً عربياً أكثر منه مفكراً إسلامياً، غير أن من يراجع أدبيات الخطاب الفكري للكواكبي، لا سيما كتاباته السياسية، يدرك مدى إيمان الكواكبي بوحدة المسلمين السياسية، كما يدرك بأن مناهضته للكثير من الولاة والحكام الذين لم يحسنوا تمثيل الدولة العثمانية في البلاد العربية، كانت وراء مناداته بهذه الفكرة.
بل لعل ما يدلّ على أصالة إيمان الكواكبي بالجامعة الإسلامية، دعوته إلى تجديدها وبعثها في صورة حديثة تستجيب للأفكار السياسية التي يقدمها الإسلام، وذلك قبل الإعلان الفعلي لسقوط الخلافة العثمانية، التي كانت في نظره مجرد شبح لا قدرة له على توفير الحماية الإدارية والأمنية لدار الإسلام، فضلاً عن عدم سيادتها على الكثير من أقاليم البلاد الإسلامية، فسلطان مراكش (المغرب الأقصى)، وحكام إيران، وبعض حكام الجزيرة العربية -الذين كانوا خارج سلطة الأتراك- وحكام عدد من أقاليم ومناطق إسلامية في أفريقيا وآسيا لم يكونوا يعترفون أصلاً بسلطة هذه الخلافة.
وبالرغم من موقف الكواكبي السلبي من سلطة الدولة العثمانية، التي كانت تمثل آخر أنموذج للخلافة الإسلامية، فإنه يؤمن بإمكانية بعث هيئة سياسية وإدارية جديدة تجمع أطراف العالم الإسلامي، تأخذ شكل اتحاد عصري ذي طابع فيدرالي، على غرار صورة الاتحاد الذي حصل بين عدد من مقاطعات ألمانيا، أو صورة الاتحاد بين الولايات المتحدة الأمريكية(3).
وقد قدم الكواكبي بعض المرئيات والمقترحات، التي قد تساعد على تحقيق هذه الهيئة السياسية الجامعة لأطراف العالم الإسلامي، أهمها ما يلي:
– يجب أن تقوم الخلافة على أسس الانتخاب والشورى، والتعاون على قدم المساواة بين البلدان الإسلامية.
– أن يكون الخليفة عربياً قرشياً مستجمعاً للشروط الشرعية المنصوص عليها.
– يكون مركز الشورى العامة مكة المكرمة عندما يصادف الحج موسم الشتاء، والطائف عندما يكون الحج مصادفاً لفصل الصيف.
– تتشكل هيئة الشورى العامة من نحو مائة عضو منتخبين ومندوبين من قِبل حكام أو ولاة أقاليم البلدان الإسلامية، على أن تكون وظائفها أو مناشطها منحصرة في شؤون السياسة العامة الدينية فقط.
– يحق للخليفة أن ينيب عنه من يترأس هيئة الشورى العامة للبلاد الإسلامية.
– الخليفة لا يكون تحت إمرة قوة عسكرية مطلقاً، ويُذكر اسمه في الخطبة قبل أسماء السلاطين والحكام المحليين، ولا يُذكر في المسكوكات.
– ترتبط بيعة الخليفة بشرائط مخصوصة ملائمة للشرع، وإذا تخلف شرط منها ترتفع بيعته، على أن يُعاد تجديد البيعة كلّ 3 سنوات(4).
لعل أبرز ما يُفهم من هذه المقترحات أن الشيخ الكواكبي يؤمن بأن منصب الخليفة ليس منصباً سياسياً محضاً، بل هو منصب ديني في المقام الأول، وأنه ذو علاقة وطيدة بوحدة المسلمين العامة.
ثم إن مقترحات الكواكبي تكاد تنصبّ على خليفة المسلمين، وطريقة تبوئه هذا المقام، أكثر من انصبابها ومعالجتها لصورة الوحدة السياسية الإدارية للمسلمين والعالم الإسلامي، باستثناء الإشارة إلى صورة الاتحاد الفيدرالي، لكننا قد نجد له عذراً بالنظر إلى الواقع الذي كان يعيش في نطاقه، حيث لم يصل التفكك مداه بين الأقطار الإسلامية، ولم تتبلور بعد صورة الدولة القومية أو القُطْرية، التي جعلها الاستعمار الغربي بديلاً لنظام الخلافة الإسلامية.
النضال ضد الاستعمار
كما يُحسب مصطفى كامل (1874 – 1908م) من جيل رواد فكرة الجامعة الإسلامية، فقد أدرك هذا السياسي المصلح بأن الاستعمار الغربي وجميع القوى المناوئة للإسلام وأمته، يهدف إلى عزل مصر؛ لكي يحُول دون تأثيرها في محيطها الطبيعي، الذي هو العالم العربي والإسلامي، فأخذ كامل يناضل ضمن الحركة الوطنية المصرية؛ من أجل جعل شعار الجامعة الإسلامية دائرة سياسية تضامنية تجمع الشعوب الإسلامية المستعمَرة والمهددة بالاستعمار، ذلك أن مجرد النضال من منطلق قومي يستهدف تحرير مصر صورة من صور الانكفاء على الذات باسم القومية المصرية، أما الربط السياسي بين المصريين ودائرة الشعوب الإسلامية، ومن بينهم العرب، فهو قوة لمصر ولنضالها في سبيل استقلالها(5).
كامل: الجامعة الإسلامية دائرة سياسية تجمع الشعوب الإسلامية المستعمَرة والمهددة بالاستعمار
لقد حاول كامل أن يوضح، لا سيما للدوائر الغربية المناوئة بطبيعتها لفكرة تكتل الشعوب الإسلامية على أساس جامع، يتجاوز الروابط القومية، بأن هذا التكتل ليس ضد الغرب، بل هو أمر طبيعي لا تعصب فيه، وإنه لا يوجد مسلم مستنير واحد يظن لحظة واحدة أنه من الممكن اجتماع الشعوب الإسلامية في عصبة واحدة ضد أوروبا، والذين يقولون بذلك إما جاهلون أو راغبون في إيجاد هاوية بين العالم الأوروبي والمسلمين، إنه لا سبيل لنهضة الشعوب الإسلامية بغير حياة إسلامية جديدة تستمد قوتها من العلم والفكر الواسع الراقي(6).
كما حاول أكثر من مرة الرد على ما يُنشر هنا وهناك ضد الجامعة الإسلامية، وعندما نشرت صحيفة «الوقت» الفرنسية مقالاً يتحدث عن أن المقصود بالجامعة الإسلامية يعني العودة إلى الحروب الدينية، أخذ كامل يدفع هذا الافتراء، مثبتاً أن المسلمين لا يؤمنون أصلاً بالحرب الدينية -كما هي حال أوروبا أيام الحروب الصليبية- وأن المسلمين أدركوا من زمان بعيد أنه يستحيل على أي أمة أن تعيش في معزل عن العالم، وأن الأمة التي تحاول ذلك تقضي على نفسها بالموت.
أما الشعور الموجود عند كافة الشعوب الإسلامية، فهو شعور انعطافها وحنانها لبعضها بعضاً، فكلّ مسلم يرغب من صميم فؤاده أن يرى أبناء دينه معامَلين أحسن معاملة، ومعتَبرين كجزء حي من الإنسانية، ومحتَرمين في كلّ مكان.
وبما أن الإسلام ليس عقيدة فقط، بل قانون اجتماعي، فإن إحياء الأفكار ونشر المعارف لا يتمَّان إلا بإظهاره على حقيقته، وأن ميل كلّ مسلم لأبناء دينه أمر طبيعي وشرعي، والأصل ألا يكون هناك رجل منصف ينتقد ذلك الميل(7).
_______________________
(1) محمد عمارة، جمال الدين الأفغاني المفترى عليه، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1984م، ص 161.
(2) المرجع السابق، ص 166.
(3) أحمد الرحبي، الأفكار السياسية والاجتماعية عند الكواكبي، دار الأهالي، ط1، دمشق، 2001م، ص 44.
(4) المرجع السابق، ص 46 – 47.
(5) محمد عمارة، الجامعة الإسلامية والفكرة القومية نموذج مصطفى كامل، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1994م، ص 11.
(6) المرجع السابق، ص 125.
(7) المرجع السابق، ص 126.