لا ريب أن أي مطلع على العقيدة اليهوديّة يستعجب من ارتباط المعتقدات اليهودية بالبقرة، ففي القرآن الكريم إشارة إلى البقرة الصفراء، وفي هذه الآيات مثالٌ عن تعنت يهود بني إسرائيل وكثرة سؤالهم عندما أمرهم سيدنا موسى عليه السلام بذبح البقرة؛ (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ {67} قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ {68} قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) (البقرة).
وفي الوقت الحالي، تشكل قضية «البقرة الحمراء» وانعكاسات قضية تجاوز «شرط الطهارة»، وما يترتب عليها من تصاعد للاعتداء على المسجد الأقصى، قضية بالغة الحضور والمتابعة في هذه المرحلة، فإلى جانب ارتباط هذا الطقس بالأساطير اليهوديّة، تسعى أذرع الاحتلال لتحقيق جملة من القضايا، وأبرزها تحقيق قفزة في أعداد مقتحمي «الأقصى»، من خلال تجاوز رأي الحاخامية الرسمية.
3 مقدمات تمهيديّة
قبل المضي في الحديث عن قضية «البقرة الحمراء»، وما هو هدف الاحتلال من هذا الطقس، وانعكاساته المختلفة، من المهم أن نقدم 3 مقدمات توطئة لخلفيات تصاعد الاعتداءات على المسجد الأقصى:
الأولى: ينشط في مجتمع الاحتلال عددٌ من المنظمات التي تسعى إلى بناء «المعبد» المزعوم، ونشر أفكارها في بيئة الاحتلال، ودفع المزيد من المستوطنين إلى المشاركة في اقتحامات المسجد الأقصى، في سياق تحقيق الإحلال الديني في المسجد المبارك، ومع تزايد نفوذ هذه المنظمات وحضورها، شكل ما يُعرف بائتلاف «منظمات المعبد» الذي يقود فرض الطقوس العلنية في «الأقصى»، والسعي نحو بناء «المعبد».
الثانية: على الرغم من تصاعد نفوذ «منظمات المعبد» وحضورها في المشهد «الإسرائيلي»، فإنها لم تستطع أن تغير الفتوى الحاخامية الرسمية، التي ما زالت تحرّم اقتحام «الأقصى»، قبل تحقيق شرط التطهر؛ ما يعني أن تجاوز شرط التطهر سيفتح المجال أمام أعداد أكبر من المستوطنين المتدينين للمشاركة في اقتحام المسجد الأقصى، وتثبيت وجود المكون اليهودي في المسجد الأقصى.
الثالثة: تسعى أذرع الاحتلال المختلفة وفي مقدمتها «منظمات المعبد» أن يتحول الوجود اليهودي في «الأقصى» من وجود مؤقت مرتبط بساعات الاقتحام شبه اليومية، إلى وجودٍ دائم، يزاحم الوجود الإسلامي داخل المسجد، بل يسعى إلى إزالته في مرحلة، وفي سياق تحقيق هذا الهدف تحاول أذرع الاحتلال أن ترفع أعداد مقتحمي «الأقصى»، وأوقات وجودهم في المسجد، من خلال جملة من الخطوات تمتد من التحريض، والدعم المالي والميداني، وصولًا إلى تحقيق الأساطير التوراتية، وتجاوز الفتاوى الدينية.
نجاسة الموتى وضرورة التطهر
يحظر الرأي الديني التقليدي دخول اليهود إلى المسجد الأقصى (المعبد المزعوم) جراء فقدان شرطين أساسين:
الأول: الإشارة الإلهية عبر مجيء المخلص، أو نزول المعبد من السماء.
الثاني: تحقيق شرط الطهارة، وبحسب الشريعة اليهوديّة الطهارة من نجاسة الموتى، فلمس الميت أو الاجتماع معهم في مكان واحد، وصولًا إلى دخول المقابر، تصيب اليهود بالنجاسة الكبرى، ولا يُمكن التطهر من هذه النجاسة إلا من خلال طقس «البقرة الحمراء».
وأمام استحالة تحقيق الشرط الأول المرتبط بالغيب، وجدت أذرع الاحتلال بأن تحقيق الشرط الثاني أكثر إمكانية، وسهولة، على الرغم من الشروط الكثيرة التي تحيط باختيار البقرة ولونها، إلا أن تحقيق هذه الشروط وخاصة مع تطور التعديل الجيني أمرٌ ممكن، وهو ما عملت على تحقيقه أذرع الاحتلال، من خلال استيلاد أجنة أبقار تم تعديلها جينيًا لتكون مطابقة للشروط المنصوص عليها لدى اليهود.
حمراء «فاقعٌ لونها»
وقبل الحديث عن طقوس التطهر وما تتضمنه، تشترط الشريعة اليهودية مجموعة من الشروط التي تتعلق بالبقرة وعمرها وأوصافها، إذ تُشير شريعة المستوطنين بأن لون البقرة أحمر بالكامل، على أن تبلغ من العمر عامين كاملين، ولم يظهر في شعرها أي لون آخر مخالف للأحمر، ولو كانت شعرة واحدة، إلى جانب خلوها التام من أي عيوب جسدية وخلقية، وإضافة إلى الشروط الشكلية، من المفروض في البقرة النموذجية ألا تُحلب، ولا تَحرث ولا تجرّ عربة وألا تُنجِب.
وبحسب متخصصين في الدراسات اليهودية، تؤكد تفاصيل طقوس التطهر إلى أنها طقوس معنوية، أكثر منها مادية، فبحسب هذه المصادر يتم التطهر من خلال ذبح البقرة، وحرقها ضمن طقوس خاصة مع خشب الأرز، مع إضافة عشب بعينه اسمه «الزوفة»، وبعد إتمام الإحراق بشكلٍ كامل، يتم جمع رماد البقرة، وممن ثمّ يُخلط بماءٍ من مصدرٍ جارٍ، وأخيرًا يتم نثر هذا المزيج النهائي على المصابين بنجاسة الموتى، لتحقيق الطهارة، ولا تتوقف تفاصيل هذه العملية عند البقرة والأدوات فقط، بل تمتد إلى الكاهن الذي يقوم بها، إذ تفرض الشريعة اليهودية طقوسًا خاصة كذلك، لا يتسع المجال إلى ذكرها.
بقرات أمريكا وأموالهم
تكرر مصادر الاحتلال بأن آخر بقرة انطبقت عليها الشروط كانت في عهد «المعبد» المزعوم، وأن هذا الطقس لم يتم منذ أكثر من ألفي عام، ومع دقة شروط البقرة فقد عملت أذرع الاحتلال على تجاوز الندرة من خلال التقنيات الحديثة، واستخدام التعديل الجيني، مستفيدة من علاقات الاحتلال مع الولايات المتحدة الأمريكيّة، ففي عام 2015م أعلن «معهد المعبد» عن حملة لجمع التبرعات لتعديل أجنة أبقار حمراء، وأشارت المصادر إلى أن هدف المعهد كان 125 ألف دولار أمريكي، وأن تكلفة كل جنين يبلغ نحو 800 دولار، وقد تم اختيار الولايات المتحدة وولاية تكساس خاصة، على أثر فشل زراعة الأجنة في دولة الاحتلال، في مقابل تطور هذه التقنيات بشكلٍ بكير في الولايات المتحدة.
وكشفت منظمات «إسرائيلية» بأن عددًا من المنظمات قامت على استجلاب الأبقار من الخارج بعد الوصول إلى 5 أبقار تنطبق عليها المواصفات التوراتية، بالتعاون مع منظمة إنجيلية في الولايات المتحدة، وقد عدلت وزارة الزراعة «الإسرائيلية» بعض شروط استيراد الأبقار من الخارج، لتسمح لأذرع الاحتلال باستيراد هذه الأبقار، وفي 15 سبتمبر 2022م أعلن معهد المعبد عن وصول البقرات الحمراء إلى الأراضي المحتلة.
مضاعفة مقتحمي «الأقصى»
كما أسلفنا في بداية المقال، تهدف «منظمات المعبد» إلى تجاوز الفتوى الرسمية، وفتح المجال أمام المزيد من المستوطنين لاقتحام المسجد الأقصى؛ ما يسمح لها بفتح المجال أمام فرض المزيد من التحكم بـ«الأقصى» وأبوابه من حيث قدرتها على حشد أعداد أكبر من المتطرفين، خاصة أن سقف أعداد مقتحمي «الأقصى» لا يتجاوز بحسب مصادر دائرة الأوقاف الإسلامية حاجز 50 ألف مقتحمٍ في السنة، أما في حال تنفيذ طقوس التطهر فمن المتوقع أن يصل عدد مقتحمي «الأقصى» سنوياً إلى 200 ألف مستوطن وربما أكثر من ذلك، وهو ما ينعكس على أعداد المقتحمين في مجمل أيام العام، ويفتح المجال لمشاركة المزيد من عتاة المتطرفين في هذه الاقتحامات، وخاصة أولئك الذين لا يريدون تجاوز الفتوى الحاخامية الرسمية.