لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد، والنعمة، لك والملك، لا شريك لك لبيك، تهل على الأمة في الأيام المقبلة خير أيام الدنيا وأعظمها، نفحات عظيمة، ورحمات مفتوحة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه من العمل فيهن من هذه العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد» (رواه أحمد).
ولعظم تلك الأيام، فقد أقسم الله بها في كتابه تنويهاً بشرفها وعظم شأنها فقال سبحانه: (وَالْفَجْرِ (1} وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2} وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) (الفجر)، وقد ورد في حديث ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر»، فقالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء» (رواه الترمذي، وأصله في البخاري).
لماذا خُصت العشر الأوائل من ذي الحجة بالفضل؟
ميَّز الله تلك الأيام لعدد من الأسباب، منها:
– شرفها الله عز وجل بوجود يوم عرفة؛ وهو يوم المغفرة واستجابة الدعاء والعتق من النار، وهو اليوم الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟ أشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرت لهم» (رواه مسلم).
وفي الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال أي آية؟ قال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) (المائدة: 3)، قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم: وهو قائم بعرفة يوم الجمعة.
– وفيها الحج، وقد وردت الإشارة بذلك في كتاب الله عز وجل، ومنها قوله تعالى: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27} لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ) (الحج)، حيث أورد ابن كثير في تفسير هذه الآية قوله: «عن ابن عباس رضي الله عنهما: الأيام المعلومات أيام العشر»(1).
وفريضة الحج أوجبها الله تعالى على عباده مرة في العمر على المستطيع، قال عز وجل: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (آل عمران: 97)، ووجوب الحج مما عُلِم من دين الإسلام بالضرورة.
وقد رتب الشارع على أداء هذه العبادة الثواب والأجر العظيم؛ ما يثير همة المسلم، ويشحذ عزمه، ويجعله يُقْبِل عليها بصدر منشرح وعزيمة وثَّابة، وهو يرجو ثواب الله ومغفرته وما أعده لحجاج بيته الكريم، فجاءت النصوص المتكاثرة في فضائل الحج والعمرة.
فالحج يهدم ما قبله، والحج من أعظم أسباب تكفير الخطايا والسيئات، فإذا حج العبد الحج المبرور فإنه يرجع من حجه كيوم ولدته أمه طاهرًا من الذنوب والخطايا؛ وفي الحديث عن أبي هريرة، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» (رواه البخاري).
وجاء في الصحيح أن عمرو بن العاص رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل في الإسلام، وأراد أن يشترط على النبي صلى الله عليه وسلم أن يُغْفَر له ما قد سلف من ذنوبه، التي اقترفها حال الشرك، فذكر له النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمور، كلها تكفِّر ما قبلها من الذنوب والخطايا، يقول عمرو بن العاص: لما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أبسط يدك فلأبايعك، فبسط فقبضت يدي، فقال: «ما لك يا عمرو؟»، قلت: أشترط، قال: «تشترط ماذا؟»، قلت: أن يغفر لي، قال: «أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله» (رواه مسلم).
والحج المبرور جزاؤه الجنة ووعد الله تعالى عباده بأن يثيبهم على طاعته، وجعل جزاء الحج الجنة، ولم يجعل له جزاء دونها، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» (متفق عليه)، والحج من أفضل أعمال البر.
والحج جهاد المرأة، ففي الحديث أن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ فقال: «لكُنَّ أفضل الجهاد حج مبرور» (رواه البخاري)، وجعل الله الحجاج والعمار وفد الرحمن.
وصح في الحديث عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الغازي في سبيل الله والحاج والمعتمر وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم» (رواه ابن ماجه وصححه الألباني).
– وفيها يوم النحر الذي هو أعظم الأيام عند الله، قال صلى الله عليه وسلم: «أعظم الأيام عند الله تعالى يوم النحر، ثم يوم القرّ» (رواه أبو داود).
– وقد اجتمعت في هذه الأيام أعظم العبادات وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولم تحظ غيرها من الأيام بمثلها، كما أشار بن حجر أن هذه الأيام المباركات تُعد مناسبةً سنويةً مُتكررة تجتمع فيها أُمهات العبادات، كما أشار إلى ذلك ابن حجر بقوله: «والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أُمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره(2).
– إنها أيام يشترك في خيرها وفضلها الحجاج إلى بيت الله الحرام، والمقيمون في أوطانهم لأن فضلها غير مرتبط بمكان معين إلا للحاج.
– الصيام فيها بأجر مضاعف، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «ما من أيام أحب إلى الله أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة، يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة، وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر» (رواه الترمذي وابن ماجة في سننه).
_____________________
(1) ابن كثير، ج3، ص239.
(2) فتح الباري شرح صحيح البخاري.