لم تخل فترة من فترات التاريخ قديماً وحديثاً من ظاهرة الهجرة، فالناس جبلوا على ترك أوطانهم طوعاً أو كرهاً؛ إما لأسباب اقتصادية، أو هرباً من البطش، أو الخوف على حياتهم، أو طلباً للأمن والأمان.
وقد تكون الهجرة للفرد المسلم والأسرة المسلم ضرورة إذا ترتب على البقاء فتنة في الدين، وتعرض للبطش أو الظلم، ولهذا هاجر المسلمون الأوائل إلى الحبشة مخافة أن يفتنوا وفراراً إلى الله بدينهم، وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة المنورة بعد رفض أهل مكة للإسلام، بل ومحاربته، وتعرُّض المسلمين لشتى أنواع الإيذاء النفسي، والمعنوي، والجسدي، فكانت الهجرة النبوية طلباً للأمن، واستهدافاً لإقامة دولة إسلامية تحمي أتباع الدين الإسلامي، وتحفظ الحقوق، وتضمن للإسلام حقه في الانتشار.
وبسبب الانهيار المالي في بعض الدول العربية وتضخم الفساد وانتشار البطالة بين أعداد كبيرة من الناس، وبسبب التداعيات السياسية والأمنية في دول أخرى لا سيما بعد اندلاع ما يعرف بـ«ثورات الربيع العربي» وما تبعها من فوضى وتردٍّ في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية فر كثير من المسلمين إلى بلاد الغرب لا سيما أوروبا وأمريكا، حيث بلغ عدد المهاجرين غير النظاميين الذين تمكنوا من الوصول إلى أوروبا منذ بداية عام 2023م وحتى سبتمبر من نفس العام 230 ألف مهاجر وفق بيانات أوروبية رسمية.
ومع دخول المهاجرين إلى تلك الدول التي فروا إليها طفت على السطح العديد من الظواهر الاجتماعية كارتفاع نسب الطلاق والتمرد على واجبات الدين وأوامره، وظهرت حالات تنصر وإلحاد كثيرة بين أبناء الجاليات العربية والمسلمة، لا سيما التي فرت من ويلات الحرب.
الصدمة الحضارية
كثير من الذين فروا من البطش والظلم والاستبداد والمعاناة الاقتصادية قد يشعرون للوهلة الأولى عند دخولهم إلى أمريكا وأوروبا تحديداً بالسعادة وكثير من الارتياح، سرعان ما تبدأ مرحلة الصدمة الثقافية لا سيما حين يشرع العقل في عقد المقارنات بين البلد الأصلي والبلد المهاجر إليه؛ مقارنات على مستوى نظافة الشوارع والمدن، التكنولوجيا المتقدمة، الحرية في إبداء الرأي، في اختيار الحاكم، وغيرها من أوجه المقارنات الأخرى، ولا شعورياً يميل العقل إلى الاختزال والنظرة الأحادية، فيتورط في الإقرار بنتائج مغلوطة، يزيد من فساد العملية العقلية إذا رافق الشخص هزيمة نفسية جرها معه إلى البلد الذي هاجر إليه، سببها بالأساس جهل بأمور العقيدة، وسُنن الله في الكون.
ومن هذه النتائج المغلوطة التي يتوصل إليها العقل أن سر تقدم الغرب وسبب حريته يكمن في فصل الدين عن الدولة، إذ إن هؤلاء القوم الذين فر إليهم رغم فسقهم وفساد دينهم وبُعدهم عن أي شكل من أشكال التدين متقدمون بارعون يعيشون حياتهم بحرية، لا يتسلط عليهم متسلط، ولا يستبد بهم مستبد، في حين أن الذين دانوا لله بالوحدانية وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وعبدوا ربهم تعرضوا لكل أشكال الظلم والطغيان.
إن كثيراً من الذين فروا من بلدانهم لأسباب سيق ذكرها إلى بلدان علمانية كانت لديهم القابلية للإلحاد أصلاً، ذلك أنهم لم يؤسسوا على بناء عقدي سليم يدرك أن لهذا الكون إلهاً عدلاً حكيماً، فكانت الشهوات قريبة من قلوبهم، والشبهات ملازمة لعقولهم، وسبب قرب الشهوات أنهم يعيشون في مجتمعات مضمحلة تنتشر فيها الخمور والدعارة والشذوذ فتسهل المهمة على الشيطان بإقناع مشوش العقيدة ضعيف الإيمان بضرورة ترك الدين والتنصل منه حتى لا يشعر دوماً بتأنيب الضمير كلما تورط في شهوة من الشهوات.
وسبب ملازمة الشبهات عدم اكتمال البناء العقدي السليم القادر على انتشال المسلم المهاجر من الوحل الذي يحيط بعالمنا اليوم، ذلك أن العقيدة الصحيحة تجيب لصاحبها عن سر وجوده في هذه الحياة، وتحدد له علاقته بربه ابتداءً وبالكون والوجود، وتبين له مسيرة حياته ومصيره ونهايته، والعقيدة أيضاً هي المحرك الأساس لعواطف الإنسان والموجه لسلوكياته وإرادته، مهما تكالبت عليه الظروف، ومهما اشتد عليه الظلم، فبالعقيدة الصحيحة صمد بلال، وعمار، وخباب، وفي ضعفها أو غيابها برز سؤال: أين الله من كل هذه المجازر، ولماذا لم ينتصر للمظلومين، وبرز سؤال الشر على موائد الباحثين وأصبح مدخلاً من مدخلات الإلحاد، لا سيما حين تمازج مع أسئلة أخرى ليس لها إجابات إلا من باب العقيدة.
أخطار الدمج
الأصل في الأسرة قبل الهجرة أن الأجيال الكبيرة لها حق الهيمنة على الأجيال الناشئة، والأب هو الموجه الأول، غير أن هذه القاعدة لا مكان لها في بلد المهجر، فالعلاقات قائمة بالأساس على المساواة والحرية المطلقة دون قيد لعرف أو دين أو معتقد، ما ينتج عن ذلك اضطراب في العلاقة وصراع متواصل واهتزاز قوي في بناء الأسرة، الابن أو البنت في هذه العلاقة الطرف الضعيف سريع التأثر بمستجدات البيئة الجديدة، فالأب والأم عاشا في بيئة تحمل مضامين اجتماعية وثقافية تعكس نموذجاً معيناً في التفكير والتعاطي مع الأمور، ومن الصعب تهيئهم ودمجهم نفسياً وعقلياً واجتماعياً في البيئة الجديدة بكل ما تحمله من مضامين منافية لما تربوا عليه، بينما الأبناء يتم دمجهم في نظام تعليمي وتربوي واجتماعي وثقافي مرتكز على اختيارات علمانية ومبادئ وضعية، على نحو يجعلهم يتشربون عادات وقيم المجتمع الجديد، وينسجمون بشكل أو بآخر مع ثقافته بما فيها من تنافر وقطيعة مع الدين في ظل عجز كبير من الآباء والأمهات بحكم صرامة القوانين التي تدعم الحرية المطلقة للأبناء.
حلول ومقترحات
في ظل المعطيات الحالية، وتحول الهجرة لا سيما في العقد الأخير من فردية إلى عائلية، ومن مؤقتة إلى دائمة تعظم الحاجة إلى حلول قابلة للتطبيق تضمن للمسلمين اندماجاً صحياً في المجتمعات الغربية على نحو يقيهم من مغبة الوقوع في الإلحاد، ويعصمهم من الوقوع في الفواحش، والبداية يجب أن تكون من قيام المؤسسات القائمة على أمر المسلمين في تلك البلدان بوضع إستراتيجية تتضمن خطط عمل ثقافية وتربوية ومناهج عمل في جميع مجالات الحياة تتفاعل مع خصوصية الواقع وتتفاعل معه تفاعلاً إيجابياً وسط التحديات.
فالمسلمون في بلاد الغرب بحاجة إلى:
أولاً: خطاب ديني متجدد يتسم بالعقلانية، ولا يتماهى مع منظومة الاستبداد، ولا يبرر للظلم والطغيان، ويأخذ في الحسبان أسباب انتشار الإلحاد أولاً؛ ليتمكن من معالجتها وبلورة إجابات كافية ومتوازنة مع ضغوطات اللحظة الراهنة على نحو يلبي احتياجات الشباب الفكرية ويحصنهم من الأفكار الهدامة.
ثانياً: منظومة عمل اجتماعية وثقافية تعظم من شأن الأسرة في وقت تتهاوى فيه كثير من الأسر، إذ لا إصلاح لأحوال المسلمين بتلك الدول إلا بتقوية الأسرة وضمان سلامتها.
ثالثاً: منظومة عمل مجتمعية لا تؤمن بالعزلة، تتولى علاج المشكلات التي يعاني منها الأطفال، لا سيما مشكلة التكيف الدراسي حتى لا يتعرضوا للإحباط والإخفاق المدرسي.
رابعاً: منظومة عمل ثقافية تعزز الهوية في نفوس النشء، وتساهم في الحفاظ على التراث الاجتماعي وقيمه وأعرافه الصالحة.
خامساً: منظومة عمل تؤصل في عقول المسلمين المهاجرين أن الإسلام اليوم فرض على الجميع وجوده، وأن المسلمين اليوم أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من صناعة مستقبل الدول التي يعيشون فيها، طالما حرصوا على القيام بمزيد من الأدوار الإيجابية.