«أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا رويتُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً وقلتُ بغيره»، إنها كلمات الإمام محمد بن إدريس الشافعي، الذي أعلن في كثير من المواقف عن شدة تمسكه بسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أوردت كتب التاريخ والسير بعضاً من هذه المواقف، فمنها ما رواه الربيع بن سليمان، حيث قال: جاء رجل إلى الإمام الشافعي فقال: حدِّثني بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما حدثه، قال الرجل: فما تقول؟ يعني ما رأيك في هذا الحديث؟ فانتفض الشافعي، قائلاً: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً وقلتُ بغيره، ثم نظر إلى الناس وقال: اشهدوا أني إذا صح عندي الحديث فلم آخذ به فإن عقلي قد ذهب.
وروى إبراهيم بن أحمد الخطابي، قال: سمعت الحميدي يقول: ذكر الشافعي حديثاً، فقال له رجل: تأخذ به يا أبا عبدالله؟ فقال الشافعي: أفي الكنيسة أنا أو ترى على وسطي زناراً؟! (علامة على ملابس اليهود)، ثم قال له: نعم أقول به، وكلما بلغني عن النبي صلى الله عليه وسلم قلتُ به.
وقال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي يقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودَعُوا ما قلت.
وقال الفضل بن زياد: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ما رأيت أحداً أتبع للحديث من الشافعي، وقال الحسن بن سعيد: سمعت الزعفراني يحدث عن الشافعي قال: إذا وجدتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم سُنة فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى قول أحد(1).
التمسك بالسُّنة استجابة لأمر الله تعالى وسبيلاً إلى محبته
إن هذه الأقوال تؤكد أن الإمام الشافعي وهو أحد أئمة الحضارة الإسلامية يعلن التمسك الشديد بالسُّنة النبوية الشريفة، فلماذا حرصت الحضارة الإسلامية على التمسك بالسُّنة النبوية؟
أولاً: الاستجابة لأمر الله تعالى وتحقيق محبته:
أمر الله تعالى في القرآن الكريم بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، حيث قرنها بطاعته سبحانه وتعالى فقال: (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (آل عمران: 132)، ثم أمر بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) (الحشر: 7)، كما أوضح الله تعالى أن طاعة الرسول إنما هي طاعة لله سبحانه، حيث قال عز وجل: (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ) (النساء: 80)، وفي هذا تأكيد على أن التمسك بالسُّنة النبوية يعد استجابة لأمر الله تعالى وسبيلاً إلى محبته.
ثانياً: الوقاية من الوقوع في الضلال:
روى الحاكم في المستدرك عن عبدالله بن عباس قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: «أيها الناس، إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً، كتاب الله وسُنتي»، وروى ابن أبي عاصم في كتاب «السُّنة» عن العرباض بن سارية، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لقد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك».
وقال العِرباضِ: وعَظَنَا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَوْعِظَةً وجِلَتْ منها القلوبُ، وذَرَفَتْ منها العيونُ، قال: فقلْنَا: يا رسولَ اللهِ، كأَنَّ هذه مَوْعِظَةُ مُودِّعٍ فماذا تَعْهَدُ إلينا؟ فقال: «أُوصِيكُمْ بالسَّمْعِ والطَّاعَةِ، فإنه مَنْ يَعِشْ منكم بعدي فسَيَرَى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسُنَّتِي، وسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِييْنَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بها، وعَضَّوا عليها بالنَّواجِذِ»(2)؛ ففي هذا تأكيد على نجاة من تمسك بالسُّنة النبوية.
مَنْ تمسَّك بالسُّنة فقد التزم طريق الاستقامة والنجاة والفلاح
وفي هذا قال الزُّهْرِيّ: كَانَ من مضى من عُلَمَائِنَا يَقُولُونَ: الِاعْتِصَام بِالسنةِ نجاة، وقال أحمد بن أبي الحـواري: من عمـل عملاً بلا اتباع سُنة فباطل عمله(3)، ويكفي تارك السُّنة ضلالاً ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «من رغب عن سُنتي فليس مني»(4).
ثالثاً: تحقيق الاستقامة:
من تمسك بالسُّنة فقد التزم طريق الاستقامة، قال الأوزاعي: اصبر نفسك على السُّنة، فلا يستقيم الإيمان إلا بالقول، ولا يستقيم القول إلا بالعمل، ولا يستقيم الإيمان والقول والعمل إلا بالنية وموافقة السُّنة(5)، وقال ابن عبدالبر: الْحُجَّةُ عِنْدَ التَّنَازُعِ: السُّنَّةُ، فَمَنْ أَدْلَى بِهَا فَقَدْ أَفْلَحَ، وَمَنِ اسْتَعْمَلَهَا فقد نجا(6).
رابعاً: تحصيل الأجر والثواب:
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُّ أُمَّتي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَن أَبَى»، قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَن يَأْبَى؟ قالَ: «مَن أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَن عَصَانِي فقَدْ أَبَى»(7)، وأخرج بن عَبْدِالْبَرِّ عَنْ أَبِي دَاوُدَ صَاحب السّنَن أَنه كَانَ فِي سَفِينَةٍ فَسَمِعَ عَاطِسًا عَلَى الشَّطِّ حَمِدَ فَاكْتَرَى (استأجر) قَارِبًا بِدِرْهَمٍ، حَتَّى جَاءَ إِلَى الْعَاطِسِ فَشَمَّتَهُ ثُمَّ رَجَعَ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَعَلَّهُ يَكُونُ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، فَلَمَّا رَقَدُوا سَمِعُوا قَائِلًا يَقُولُ: يَا أَهْلَ السَّفِينَةِ إِنَّ أَبَا دَاوُدَ اشْتَرَى الْجَنَّةَ مِنَ اللَّهِ بِدِرْهَمٍ(8)، إنه تحرك ودفع المال من أجل التمسك بسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تشميت العاطس.
خامساً: عمارة القلب بنور المعرفة:
قال ابن عطاء: من ألزم نفسه آداب السُّنة نوَّر الله قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف من متابعة الحبيب في أوامره وأفعاله وأخلاقه(9).
سادساً: النطق بالحكمة وتحصيل الخير والبركة:
قال النيسابوري: من أمّر السُّنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة(10)، وقال الجنيد: الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم، واتبع سُنته، ولزم طريقته، فإن طريق الخيرات كلها مفتوحة عليه(11)، وقال ابن عبدالبر: البركة والخير كله في أتباع أدب رسول الله وامتثال أمره(12).
الحرص على تعلُّم السُّنة وتحصيلها وتعظيمها والعمل بها
إذا كانت الحضارة الإسلامية قد اعتنت بإعداد الدعاة على التمسك بالسُّنة النبوية؛ فما أهم الوسائل التي اعتمد المربون عليها في ذلك؟
أولاً: الحرص على تعلم السُّنة النبوية وتحصيله:
قال الإمام مالك بن أنس: بلغني أن سعيداً بن المسيب قال: إن كنت لأسير الليالي والأيام في طلب الحديث الواحد(13)، ومن الأمثلة في ذلك أيضاً ما رواه أحمد، والبيهقي عن عطاء بن أبي رباح يقول: إن أبا أيوب الأنصاري رحل إلى عقبة بن عامر، يسأله عن حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم (أبو أيوب يعيش في المدينة المنورة، وعقبة بن عامر يعيش في مصر)، يقول: فلما قدم إلى منزل مسلمة بن مخلد الأنصاري، وكان أمير مصر في ذلك الوقت، خرج إليه، فعانقه، ثم قال له مسلمة: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ قال: حديث سمعه عقبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ستر المؤمن، دلني على عقبة أسمع منه الحديث.
فقال: نعم، فذهب معه لسيدنا عقبة، قال عقبة لما رأى أبا أيوب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ سَتَرَ مُؤْمِناً فِي الدُّنْيَا عَلَى كُرْبَتِهِ سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، هذا السطر الذي من أجله جاء أبو أيوب من المدينة المنورة إلى مصر، يقول راوي الحديث: ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته، فركبها راجعاً إلى المدينة، إنه جاء ليتعلم السُّنة النبوية رغم طول الطريق وبُعد المسافة.
ثانياً: تعظيم حديث الرسول عند التحديث به:
كان الإمام مالك بن أنس إذا جلس للحديث توضأ، وجلس على صدر فراشه وسرّح لحيته، وتمكن في جلوسه بوقار وهيبة، ثم حدَّث، فقيل له في ذلك، فقال: أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحدث به إلا على طهارة(14)، ودخل المطلب بن حنظب على سعيد بن المسيب في مرضه وهو مضطجع، فسأله عن حديث، فقال سعيد: أقعدوني، فأقعدوه، قال: إني أكره أن أحدث حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجع(15).
ثالثاً: الحرص على العمل بالسُّنة النبوية:
روى الإمام مسلم في صحيحه حديث النُّعْمَانِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَنْبَسَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أُمَّ حَبِيبَةَ تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ صَلَّى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ»، قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ: فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللّهِ، وَقَالَ عَنْبَسَةُ: فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ أَوْسٍ: مَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ عَنْبَسَةَ، وَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ سَالِمٍ: مَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ.
في السُّنة النجاة والعزة والكرامة والبيان والتفصيل لما في القرآن
إنها سلسلة يؤكد كل أفرادها أنهم ما تركوا العمل بسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أن سمعوها، قال عبدالرحمن بن مهدي: سمعت سفيان يقول: ما بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قط إلا عملت به ولو مرة(16).
وكان الدعاة في الحضارة الإسلامية يلاحظون الناس، فإذا وجدوا منهم مخالفة في العمل بالسُّنة أرشدوهم إلى الصواب، ومن ذلك ما ثبت عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ، أَنَّ سَعِيداً بْنَ الْمُسَيِّبِ نَظَرَ إِلَى رَجُلٍ صَلَّى بَعْدَ النِّدَاءِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَأَكْثَرَ الصَّلَاةَ، فنهاه، ثُمَّ قَالَ: إِذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُكُمْ يَعْلَمُ فَلْيَسْأَلْ، إِنَّهُ لَا صَلَاةَ بَعْدَ النِّدَاءِ إِلَّا رَكْعَتَيْنِ، فَانْصَرَفَ فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، أَتَخْشَى أَنْ يُعَذِّبُنِيَ اللَّهُ بِكَثْرَةِ الصَّلَاةِ؟ قَالَ: بَلْ أَخْشَى أَنْ يُعَذِّبَكَ اللَّهُ بِتَرْكِ السُّنَّةِ(17).
إن ما تشهده الأمة الإسلامية في هذه الأيام من تفريط في التمسك بالسُّنة النبوية وتخاذل عنها، أمر يدعونا إلى مراجعة أنفسنا وقيادة أمتنا إلى سُنة نبينا صلى الله عليه وسلم، ففيها النجاة والعزة والكرامة، وفيها البيان والتفصيل لما في القرآن الكريم، وفيها التأسيس والتطبيق للحضارة الإسلامية في أسمى صورها.
___________________________
(1) حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني (9/ 107)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (51/ 386).
(2) أخرجه أبو داود (4607)، وأحمد (17185).
(3) مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسُّنة للسيوطي، ص 53.
(4) أخرجه البخاري (5063).
(5) حلية الأولياء، (6/ 143).
(6) التمهيد (22/ 74).
(7) أخرجه البخاري (7280).
(8) فتح الباري لابن حجر (10/ 610).
(9) الرسالة القشيرية، ص 182.
(10) نتائج الأفكار القدسية في شرح الرسالة القشيرية، ص 227.
(11) حلية الأولياء (10/ 257).
(12) التمهيد (11/ 439).
(13) الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 291).
(14) ترتيب المدارك وتقريب المسالك للقاضي عياض (2/ 15).
(15) حلية الأولياء (2/ 169).
(16) سير أعلام النبلاء للذهبي، (6/ 629).
(17) الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي، (1/ 381).