إن المجالس لتتعطر بأريج ذكره؛ وتسمو بالصلاة عليه، وإذا ذكر اسمه في مجلس فإن البركة تحضره وتحيط به وكأنها تشعر بقربه صلى الله عليه وسلم.
وإلى مسجده الشريف تشد الرحال فتشرف النفوس بزيارته وتهدأ عواصف الشهوات حياء منه، وتحل السكينة في قلوب زواره وهم يتنسمون هواء حبه الذي ملأ قلوبهم؛ فأنفقوا ما غلا لديهم ليحلوا ضيوفاً في مسجده وروضته التي تذكرهم بالجنة، قد صدق فيهم قوله عنهم: «مِن أشَدِّ أُمَّتي لي حُبًّا، ناسٌ يَكونُونَ بَعْدِي، يَوَدُّ أحَدُهُمْ لو رَآنِي بأَهْلِهِ ومالِهِ» (رواه مسلم)، وقد بادلهم الحبيب حباً بحب، إذ قال ذات يوم لأصحابه: «وددتُ أني لقيتُ إخواني»، فقال أصحابُه: أوليسَ نحنُ إخوانَك؟ قال: «أنتم أصحابي، ولكن إخواني الذين آمنُوا بي ولم يَرَوْنِي» (السلسلة الصحيحة).
لقد تمنى لقاء كل المؤمنين الذين آمنوا به وصدقوه واتبعوا طريقه وأحبوه؛ فلم يبدلوا سُنته أو يغيروا منهجه، ولا تكاد تجد مسلماً صادقاً في إسلامه إلا وهو يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً ملك عليه نفسه يود معه أن ينعم بقربه وأن تكتحل عيناه برؤيته ولو أنفق في سبيل ذلك كل ما يملك! قد ارتفع رصيد إيمانه بذلك وصدق فيه قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من مالِه وولدِه والناسِ أجمعين» (رواه البخاري.
تعرَّف على حبيبك
ألا وإن المحبين الصادقين يسعَون للتعرف على مَن يحبون، إجمالاً وتفصيلاً، ولا يكتفون بمعرفة اسمه وترديده، بل يفتشون عن كل صغيرة وكبيرة في حياته لتسعد قلوبهم بدوام حبه وتنشغل عقولهم بالفكر فيه، وتسعى جوارحهم للتأسي به، فما ظننا إن كان هذا الحبيب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أفلا يجدر بنا أن نتعرف على سيرته العطرة نستلهم منا الدروس والعبر ونأخذ منها زاد القلوب من الإيمان والمحبة.
وليكن ذلك من البداية منذ مولد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد ولد يتيماً فلم تكتحل عيناه برؤية والده عبدالله ومداعبته له وحمْله بين يديه بحب وحنان كما يفعل كل أب، ثم حُرم حنان أمه أيضاً ورعايتها له طفلاً فذاق طعم اليُتم وهو بدون أب أو أم، لكنه مع يتمه نَعِم برعاية جده عبدالمطلب، ومِن بعده عمه أبي طالب وزوجه فاطمة بنت أسد رضي الله عنها، وقد أولياه رعاية واهتماما.
ورعاية الأقارب لليتيم عمل عظيم، وقد تعوضه بعض الشيء عن فقد والديه لكنها لا تنسيه مرارة اليتم الذي يتذوقه ويتذكره كل لحظة في نفسه حين لا يجد أباه بجانبه مثل أقرانه؛ لذا فلا عجب أن نجد وصية الله تعالى له وقد صار محمد رسولاً: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ) (الضحى)، فكان صلى الله عليه وسلم لليتيم كالأب الرحيم، حيث تولدت الرحمة في قلبه وفاضت الرأفة والشفقة على مَن حوله من الأيتام فكان أرحم الناس بهم، وبشَّر من يكفل اليتيم فقال: «أنا وكافلُ اليتيمِ في الجنةِ هكذا»، وقال بإصبَعيهِ: السَّبَّابةِ والوسطى. (رواه البخاري).
كما نصح مَن يشتكي قسوة قلبه قائلاً: «ارحم اليتيم، وامسح رأسه وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك» (أخرجه الطبراني)، وقد حباه الله تعالى بأحسن الأخلاق وأعظمها، وطهر لها قلبه منذ نعومة أظفاره، صلى الله عليه وسلم.
العمل في الرعي والتجارة
وعندما شب صلى الله عليم وسلم رعَى الغنم، ولم يستنكف من ذلك أو يأنف بل إنه يقول: «ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم»، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: «نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» (رواه البخاري)، فتعلم الصبر على النفوس المتغايرة وعرف كيف يتعامل معها إذا شردت عن الطريق، وكيف يحنو عليها ويؤلف قلوبها ويضمها إليه.
كما عمل في التجارة في مال خديجة فذاق حلاوة الأكل من عمل يده، وشجع على ذلك فيما بعد وقال: «ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده» (رواه البخاري)؛ ليعلمنا عفة النفس والمطعم، وأن العمل الحلال خير من سؤال الناس.
وكان صادقاً في عمله أميناً في تعامله وفيما وكل إليه، لم ينظر إلى الربح والمال نظر الطامعين، بل كان مال خديجة في يده أمانة حفظها، ووديعة ردّها، ثم كانت رسالته بعد ذلك داعية لحفظ الأمانات وحفظ الأموال وإنفاقها في قضاء الحاجات ونفقات البر والخير.
الخلوة والتفكر
وفي وقت كان الشباب يلهون ويعبثون بأوقاتهم كان هو مع الله، لم يسجد لصنم قط أو يحبه أو يقدسه أو يعبده، بل حفظه الله تعالى من اللهو والعبث والشرك والوثنية، وأخرج من قلبه حظ الشيطان منه، وحبب إليه الخلوة معه والتعبد له في غار حراء، وقد رزقه الله زوجه الصالحة خديجة رضي الله عنها، التي كانت تعينه على ذلك.
وتظهر تباشير النبوة عليه صلى الله عليه وسلم حيث جعله الله صادقاً في رؤياه، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح تحققاً ووضوحاً وصدقاً ويقيناً، وكانت هذه هي البداية التي سبقت بعثته بالرسالة التي اصطفاه الله لها؛ فلا قلب من قلوب الخلق يصلح لها غير قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (الأنعام: 124).
وتبدأ رحلة النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة الناس لهذه الرسالة العظيمة، وقد اختاره ربه لهذه المهمة الشاقة التي تحتاج منه عزماً وصبراً وثباتاً ويقيناً، وعوناً وتأييداً، وهي بالرغم من ثقلها ومسؤوليتها فإنها تكريم له من الله، وتشريف وقرب، فاللهم صل وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.