انتظم الطلاب في مدارس العالم مع مطلع عام دراسي جديد، بينما يقف أطفال قطاع غزة المنكوب تأكلهم الحسرة على أحلامهم التي ضيّعها الاحتلال حين قصف 90% من مدارسهم، وكأنه ينتقم من مستقبلهم!
يتأمل الطلاب صوراً كانوا فيها يرتدون زي المدرسة الأنيق ويجهزون الحقيبة تمهيدًا لليوم الأول، بعضهم يحلم بأن يصير طبيباً، والآخر مهندساً أو مدرساً، وفجأة انهدم كل شيء وأصبحوا بين شهيد ونازح في ملاجئ الحرب المزرية.
يدخل العام الدراسي الثاني على التوالي بلا دراسة في غزة، التي تعلق صور أكثر من 10 آلاف طالب استشهدوا في عام واحد نتيجة الحرب، وأضعاف هذا العدد أصبحوا بين صفوف الجرحى ومبتوري الأطراف والمفقودين، ومن نجا منهم أصبح نازحاً يقضي يومه كاملاً في طوابير لا تنتهي للحصول على شربة ماء أو طبق طعام، ولا ينتهي اليوم حتى يرتقي أطفال جدد بين الشهداء نتيجة قصف «إسرائيلي» يتعمد حياة الأبرياء ومصيرهم.
أكثر من 806 آلاف طالب قد انتظموا بالعام الجديد في مدارس حكومية وخاصة وأخرى تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في الضفة بما فيها القدس، أما في قطاع غزة فقد حرمت حرب الإبادة «الإسرائيلية» أكثر من 630 ألف طالب وطالبة من حقهم في التعليم منذ السابع من أكتوبر 2023م، يضاف إليهم أكثر من 58 ألفاً يُفترض أن يلتحقوا بالصف الأول في العام الدراسي الجديد، فضلاً عن 39 ألفاً ممن لم يتقدموا لامتحان الثانوية العامة، بحسب «وكالة الأنباء الفلسطينية» (وفا).
لقد تحولت نحو 200 مدرسة تديرها «أونروا» في قطاع غزة إلى مراكز إيواء للنازحين، وتعرضت 70% منها للقصف؛ وهو ما خلف مجازر مروعة، حتى إن أستاذة الدراسات النقدية بجامعة تورنتو تشاندني ديساي كتبت في مقال لها بعد إحراق مخيمات النصيرات وسط القطاع، قائلة: إن غزة تواجه حرب إبادة تعليمية ممنهجة، إضافة للإبادة الجماعية للبشر، وتكمن الإبادة أيضاً في تدمير المدارس ودور النشر والمحفوظات والمكتبات والموارد الأرشيفية والمخطوطات التي توثق عمليات التهويد، وكل شيء في القطاع.
وهكذا يلتقط جنود الاحتلال البربريون صوراً لهم فوق ركام الكتب المحترقة، وبين أنقاض جامعة الأزهر، يمزقون خرائط فلسطين في المدارس قبل تدميرها، مرددين بسخرية: «نحن نبدأ فصلاً دراسياً جديداً، لن يبدأ أبداً».
ماذا صنعت بكم الحرب؟
مريم قوش، أديبة ومعلمة فلسطينية، كتبت تقول: في كل يومٍ تتسعُ بوابةُ السماءِ لحشدٍ أكبر من الأحبّة الذين يرحلون، في كلِ يومٍ تزيدُ الأسماءُ وتتسعُ السماءُ، ونحن ما نزالُ ما نزالُ، ننتظر!
تحدثت قوش لـ«المجتمع» عن مدرستها التي دمرتها الحرب الأخيرة وهي «قرية وادي غزة» في المنطقة الحدودية المعروفة بجحر الديك، وهي المدرسة الوحيدة في تلك القرية النائية وتابعة لبرنامج الأمم المتحدة للتعليم، وقد قضت الحرب على القرية بأكملها بما فيها من مرافق وأحلام، وأصبح الطلاب بلا مأوى ولا مدرسة ولا أفق، تتأمل قوش الصور لطالباتها من قطاع غزة وتسألهن: أين أنتن؟ وماذا صنعت بكن الحرب، وبأحلامكن البريئة؟ ومن نجت؟ هل لا تزال عيونكن تضيء بالشغف؟
تستطرد قوش: لأول مرة ينقسم الطلاب لفئات لا تعرفها نظم التربية الحديثة؛ ما بين شهيد وجريح وفاقد للحلم، فلقد كان للحرب أثر كارثي يفوق تخيل البشر، وأتذكر في طريقي للمدرسة خلال ساعات الحرب الأولى ولم أكن أعلم أنه سيكون مشواري الأخير في هذا الطريق، وبدأ الدخان ورذاذ النيران يتساقط في كل مكان، فعدت أدراجي للبيت، يحزنني بكاء الطلبة وهم يركضون لبيوتهم، لقد كان هذا اليوم فاتحة لعهد جديد، نحن الذين نعيش في غزة لا نملك مصانع ولا مؤسسات ولا حقولاً شاسعة نستثمر فيها، لكننا نمتلك أبناءنا! وهكذا ضيعت الحرب رؤوس أموالنا ونتاج حياتنا أمام أعيننا، فلم تقتصر على سفك الدماء لآلاف الطلاب، وإصابة أكثر من 50 ألفاً، لكنها قامت بتجريف وقصف ما تبقى من المدارس، وهكذا قُتل جيل بأكمله وتأجل زمن كامل، ونُفى حلم شعب بأكمله.
لقد تبدلت الحال اليوم ولم تعد أي مظاهر للحياة ولا للمدارس في القطاع المنكوب، وقد تم تدمير أغلب المدارس في غزة وتحول الباقي منها لمراكز إيواء، أما ما بقي من مقاعد الطلاب هذا إن بقي فسيصبح حطباً نشعل به لصنع طعام يقيم الأود، وتحولت الحقيبة المدرسية لخزانة متنقلة للملابس يحملها الأطفال في نزوحهم المستمر من منفى لآخر، لكن الأمل ما يزال في نفوس الطلاب متحديًا طيور الموت المحلقة في السماء.
مبادرات في مخيمات النزوح
هالة البستانجي، معلمة تربية إسلامية في إحدى مدارس الخليل، وواحدة من الفاعلات أيضاً في مجال تقديم أيادي العون لقطاع غزة المنكوب بمبادرات غذائية وتعليمية ونحوها، تقول لـ«المجتمع»: لقد استشهد 10 آلاف طالب، ومن بقوا فهم إما نازحون أو واقفون بطوابير التكيات والبحث عن الطعام والحطب، وهم مضطرون للعمل لمساعدة أهلهم بعد فقدان معظمهم لعمله نتيجة الحرب، وقد تغيرت صورتهم وطالهم الإهمال والإجهاد.
وإذا تحدثنا عن التعليم فلم يبق إلا بضع مدارس يعيش فيها النازحون وهي غير آمنة ومستهدفة من طائرات الاحتلال.
وبسؤالها عن المبادرات البديلة لتعليم الطلاب، قالت البستانجي: لقد أعلنت وزارة التعليم عن صفوف افتراضية لطلاب غزة، وهي محاولة للاستدراك وليست بديلاً، ولي صديقة تعلم الطلاب اللغة الإنجليزية ضمن جهود فردية نراها لمبادرين، وهي تحتاج لدعم نفسي للطلاب أنفسهم ليتحملوا الأيام الصعبة، وهناك حلقات مستمرة لتحفيظ القرآن الكريم، لكن أيضاً لا ننكر أن الصغار يواجهون ظروفاً بالغة القسوة تجعل من العسير عليهم التقدم في أي تحصيل علمي.
وتخبرنا البستانجي عن افتتاح عام دراسي في الضفة الغربية لكنه حزين وغير آمن أيضاً، بسبب ما يجري في غزة من إبادة، وبسبب اقتحامات العدو المستمرة في الضفة، وهناك هلع وخوف بين الأهالي هل نخرج أولادنا من المدارس أم لا، وكثيراً ما يتم تعليق الدوام بسبب العملية العسكرية المستمرة، ولا ننسى أن طلاباً استشهدوا في الضفة قبل العام الدراسي، وكانوا قد جهزوا كراساتهم وأقلامهم، ولكنهم تركوها للأبد!
وتختتم المعلمة الفلسطينية بقولها: إن الاحتلال حول الفلسطينيين إلى بقايا عائلات، وكل المنظمات الدولية فقدت مصداقيتها أمام هول ما يجري في فلسطين وعجز المجتمع الدولي عن وقفه ولم يبق غير باب الله متسعٌ.
في مخيمات ومدارس النزوح يجتمع الأطفال، يفتحون بعض الكراسات ويكتبون ما يملي لهم معلمون مبادرون لينعشوا ذاكرتهم، وقد سعوا من مواد بدائية لصنع سبورة وكراسات، هنا في غزة مصنع الأمل الذي لا يخبو، حين يثب الطفل صاحب الأرض متحدياً العدو الجبان، والابتسامة لا تغادر وجهه المنهك!