لما نزل قول الله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) (المؤمنون: 60)، قالت السيدة عائِشة: يا رسول الله، أهم الذين يَشرَبونَ الخَمرَ ويَسرِقونَ؟ قال: «لا يا بِنتَ الصِّديقِ، ولكِنَّهم الذين يصومون ويُصَلُّونَ ويتصَدَّقون وهم يخافون ألَّا تُقبَلَ منهم»(1)؛ قال الحسن: عملوا بالطاعات واجتهدوا فيها، وخافوا أن تُردَّ عليهم(2).
إن الخوف من الله تعالى سمة المؤمنين وعلامة الصالحين وسبيل المجتهدين، وهو أصل كل خير في الدنيا والآخرة، فلماذا كان العلماء والدعاة إلى الله تعالى يخافون من الله، ويحرصون على تربية غيرهم على الخوف منه تعالى؟
أولاً: تعظيم الله تعالى:
كان الدعاة يستشعرون عظمة الله عز وجل؛ مما أدى إلى الخوف منه تعالى، فقد قال ابن الجوزي: من علم عظمة الإله زاد وَجَله(3)، وكان علي بن الحسين إذا توضأ اصفر لونه، فيقولون له: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟ فيقول: أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم(4).
ثانياً: تحقيق الإيمان:
قال الله عز وجل: (وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (آل عمران: 175)، ويقول تعالى: (فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) (المائدة: 44)، وقد وصف الله تعالى أهل العلم والدعوة بأنهم يخشون الله وحده، حيث قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) (فاطر: 28)، وقال سبحانه: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ) (الأحزاب: 39).
ثالثاً: الزجر عن المعاصي:
قال هارون الرشيد: ما رأت عيناي مثلَ الفُضيل بن عياض، قال لي: فرِّغ قلبك للحزن والخوف حتى يسكناه، فيقطعاك عن معاصي الله، ويباعداك من عذاب النار(5)، وقال إبراهيم بن سفيان: إذا سكن الخوف القلب أحرق مواضع الشّهوات منه وطرد الدّنيا عنه(6)، وقال ابن تيميّة: الخوف المحمود: ما حجزك عن محارم الله(7).
الخوف من الله سمة المؤمنين وعلامة الصالحين وسبيل المجتهدين
رابعاً: الخوف من الذنوب:
لما حضرت الوفاة محمد بن المنكدر، خاف خوفاً شديداً، فسئل عن سبب خوفه، فقال: والله ما أخاف لذنب أعلم أني أتيته، ولكن أخاف أني أتيت شيئاً حسبته هيناً وهو عند الله عظيم(8).
خامساً: عدم الخوف من المخلوقات:
إن الذي يخاف من الله تعالى لا يخاف من المخلوقات، وهذا يؤهله إلى الاستهانة بالطغاة والعزم على مواجهتهم، قال يحيى بن معاذ الرّازيّ: على قدر حبّك لله يحبّك الخلق، وعلى قدر خوفك من الله يهابك الخلق، وقال عمر بن عبدالعزيز: من خاف الله أخاف الله منه كلّ شيء، ومن لم يخف الله خاف من كلّ شيء(9)، فمن خاف من الله تعالى فإنه لا يخاف شيئاً دونه.
سادساً: السعي إلى التمكين في الأرض:
قال عز وجل: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ {13} وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) (إبراهيم)، فالخوف من الله يؤدي إلى التمكين في الأرض والانتصار على الأعداء.
سابعاً: الحرص على النجاة من عذاب الله:
بكى الحسن، فقيل: ما يبكيك؟ قال: أخاف أن يطرحني غداً في النّار ولا يبالي(10)، وقال مالك: لو استطعتُ ألا أنامَ لمْ أَنَمْ، مخافةَ أن ينزِلَ العذابُ وأنا نائمٌ، ولو وجدتُ أعواناً لفرَّقتُهم ينادونَ في سائرِ الدنيا كلِّها: يا أيها الناسُ النارَ النار(11)!
ثامناً: الحرص على دخول الجنة:
قال تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) (الرحمن: 46)، فقد وعد الله المؤمنين الّذين خافوا مقامه وأدّوا فرائضه الجنّة، وروى الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من خافَ أدلَجَ، ومن أدلَجَ بلغَ المنزلَ، ألا إنَّ سلعةَ اللَّهِ غاليةٌ، ألا إنَّ سلعةَ اللَّهِ الجنَّةُ»، وقال عمر بن الخطّاب: لو نادى مناد من السّماء: أيّها النّاس إنّكم داخلون الجنّة كلّكم إلّا رجلاً واحداً لخفت أن أكون أنا هو(12).
فإذا كانت تربية الدعاة إلى الله تعالى على الخوف منه لها أثرها الفعّال في البناء والتمكين لهذه الأمة؛ فما الوسائل التي اعتمدت عليها الحضارة الإسلامية في تربية الدعاة على الخوف من الله؟
أولاً: القدوة:
كان الناس ينظرون إلى العلماء والدعاة، ويرون حالهم في الخوف من الله تعالى فيقتدون بهم، قال يزيد بن حوشب: ما رأيت أخوف من الحسن، وعمر بن عبدالعزيز، كأنّ النّار لم تخلق إلّا لهما(13)، ففي قوله: «ما رأيت» دليل على أنه رأى من حالهم ما لفت نظره إلى الخوف من الله تعالى، وقال سليمان بن سحيم: أخبرني من رأى ابن عمر يصلي وهو يترجح ويتأوه، حتى لو رآه غيرنا ممن يجهله لقال: لقد أصيب الرجل، وذلك لذكر النار إذا مر بقوله تعالى: (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً) (الفرقان: 13)، أو نحو ذلك(14).
الذي يخاف الله لا يخشى من المخلوقات وهذا يؤهله إلى الاستهانة بالطغاة
ثانياً: الصحبة:
قال الحسن: صحبت أقواماً كانوا لحسناتهم أن ترد عليهم أخوف منكم من سيئاتكم أن تعذبوا بها(15)، وقال موسى بن مسعود: كنا إذا جلسنا إلى سفيان الثوري، كأن النار قد أحاطت بنا، لما نرى من خوفه من الله(16).
ثالثاً: المحاسبة:
هَذَا أَبُو الدَّرْدَاءِ كَانَ يحاسب نفسه ويَقُولُ: إِنَّ أَشَدَّ مَا أَخَافُ عَلَى نَفْسِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يُقَالَ لِي: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، قَدْ عَلِمْتَ، فَكَيْفَ عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ(17)؟
رابعاً: الموعظة:
قال عَبْد الرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ: قال رجل من أهل البصرة لأَبي عَبْدِاللَّهِ السَّوَانِيطِيّ: عِظْنِي، فَقَالَ: مَدَارُ الْعُبُودِيَّةِ عَلَى أشياء، منها: الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ، فمِنْ ذِكْرِ الْخَوْفِ يَتُوبُ الْعَبْدُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَمِنْ ذِكْرِ الرَّجَاءِ يَتَسَارَعُ إِلَى الطَّاعَاتِ(18)، وجاء رجل إلى أبي يزيد البسطامي، وقال له: عظني، فقال له: انظر إلى السماء، فنظر إليها، فقال: أتدري من خلقها؟ قال: الله تعالى، فقال له: إن الذي خلقها مطلع عليك حيث كنت فأحذره(19)، وَقَالَ بِشْرٌ لِلْفُضَيْلِ: عِظْنِي يَرْحَمُك اللَّهُ، فَقَالَ: مَنْ خَافَ اللَّهَ تَعَالَى دَلَّهُ الْخَوْفُ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ(20).
هذه هي حال الصالحين، حال تجمع بين الخوف والرجاء في رحمة الله، فالخوف والرّجاء جناحان، بهما يطير المقرّبون إلى كلّ مقام محمود، ومطيّتان بهما يقطع من طرق الآخرة كلّ عقبة كؤود(21).
____________________________
أستاذ جامعي– دكتوراة في الدعوة الإسلامية.
(1) أخرجه الترمذي (3175).
(2) مدارج السالكين (2/ 180).
(3) مواعظ ابن الجوزي، ص 91.
(4) إحياء علوم الدين (4/ 184).
(5) مختصر تاريخ دمشق (20/ 301).
(6) بصائر ذوي التمييز (2/ 577).
(7) مدارج السالكين (1/ 551).
(8) إحياء علوم الدين (4/ 481).
(9) شعب الإيمان (3/ 206).
(10) التخويف من النار، ابن رجب، ص 23.
(11) حلية الأولياء (2/ 369).
(12) التخويف من النار، ص 17.
(13) تاريخ دمشق (45/ 236).
(14) التخويف من النار، ص 30.
(15) مواعظ ابن الجوزي، ص 91.
(16) إحياء علوم الدين (4/ 184).
(17) الداء والدواء، ص 41.
(18) الزهد الكبير: للبيهقي، ص 289.
(19) الزهر الفائح، ص 87.
(20) الزواجر عن اقتراف الكبائر (1/ 37).
(21) إحياء علوم الدين (1/ 142).