بصوت واهن متقطع يبدو عليه معاناة الإرهاق وهزال البدن، تحدث إلينا الشيخ عوض عبدالرحمن عن الأوضاع الإنسانية في مناطق الحروب في وسط السودان بعد ما يقرب من عام ونصف العام من اندلاع الحرب جراء تمرد «قوات الدعم السريع» على الجيش السوداني، في 15 أبريل 2023م.
يقول عبدالرحمن، وهو أستاذ الأدب الإنجليزي وشيخ محتسب يقوم على شأن واحدة من الخلاوي القرآنية في ولاية الجزيرة: في الشهور الأولى من الحرب كانت تتوفر في المدينة السلع الغذائية، وكانت شبكة الاتصالات تمنح الأهالي فرصة للحصول على المساعدات المالية من أفراد الأسرة الذين يعملون في مناطق آمنة في السودان أو في خارج البلاد عبر تطبيقات البنوك، ولكن بعد فترة قصيرة جرت اعتداءات واسعة على شبكة الاتصال ونهب منظم للأسواق، فوجدنا أنفسنا في أتون أزمة طاحنة في الغذاء وذلك غير الموت الذي يتهدد الجميع.
ويمضي الشيخ واصفاً الحال قائلاً: وقتها بدا الناس في تأسيس نمط جديد لحياتهم يقوم على المشاركة في الطعام، حيث بدأ الناس يحضرون ما معهم من طعام سواء قلَّ أو كثر إلى مكان معلوم في كل حي يتقاسمون فيه الطعام وآلام الحرب، وهو طعام قليل جداً، وبلا شك يفتقد للقيمة الغذائية الحقيقية، وقد فقدت نحو 20 كيلوجراماً من وزني في هذه الفترة، وهذه حالة عامة.
وفي مؤتمر صحفي في بورتسودان بختام زيارته للسودان، في 8 سبتمبر 2024م، أشار المدير العام لمنظمة الصحة العالمية د. تيدروس غيبريسوس إلى أن 25.6 مليون شخص في السودان؛ أي أكثر من نصف عدد السكان، يواجهون مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد.
انبعاث التكية
استلهاماً من تقاليد تراثهم الديني؛ أطلق السودانيون على مكان الطعام الجماعي مصطلح «التكية»، ففي الأيام الأولى للحرب لم يكن المواطنون في الخرطوم والمدن الأخرى في حاجة للمساعدات الغذائية، ولكن كان الوضع في المعابر الحدودية مع جمهورية مصر العربية مختلفاً، حيث تكدس عشرات الآلاف أمام بوابات المعابر في انتظار الحصول على إذن دخول إلى مصر، كان أمراً غير مسبوق في مدينة وادي حلفا الحدودية، ولم تعد المدينة قادرة على إطعام الحشود الضخمة من نساء ورجال وأطفال.
أمام هذا الوضع الغريب، تفتقت مخيلة فتاة سودانية تعود جذورها إلى المدينة بإطلاق أول مبادرة إطعام للعالقين في المعبر، وبدأ السودانيون في التفاعل معها، وذلك عبر تحويل مبالغ مالية على رقم حسابها البنكي، وسرعان ما تحولت تلك المبادرة الصغيرة إلى ظاهرة كبيرة ظللت رحمتها السودانيين العالقين في مناطق الحرب التي تمددت على طول الشريط الممتد من مدينة الجنينة على الحدود السودانية التشادية غرباً إلى مدينة الدندر أقصى الشمال الشرقي قريباً من الحدود السودانية الإثيوبية.
في أم درمان أكبر المدن الثلاث المكونة للعاصمة السودانية الخرطوم، فتح الشيخ الصوفي الأمين عمر الأمين مسيده (المسجد ومساكن التلاميذ والمريدين الملحقة به) أمام سكان منطقة بيت المال وأبو رووف الذين حاصرتهم في بيوتهم الاشتباك المسلحة العنيفة، وتحول ذلك المسيد إلى مأوى، يتوافد الناس عليه من كل الأحياء السكنية القريبة للحصول على طعام بشكل يومي، وكذلك للدخول في دائرة الأمان النسبي التي استطاع الشيخ الأمين توفيره بالتواصل مع الأطراف المتقاتلة.
ومثلت المحامية الشابة سوهندا عبدالوهاب وجهاً من وجوه الخير التي يلجأ إليها الناس كذلك في الحصول على الطعام، وامتدت مبادرتها الخيرية التي يدعمها آلاف السودانيين عبر التبرعات المالية الصغيرة إلى مشروع اجتماعي ضخم، يمد الأيادي البيضاء إلى المدن المنكوبة الأخرى على سبيل المثال بجانب الإطعام.
وفي مطلع نوفمبر 2023م، أطلق الصحفي السوداني البارز عثمان الجندي مبادرة «تكية فكة ريق»؛ وتعني إطعام من أصبح ولا يجد قوت يومه، حيث يشرح الجندي مبادرته لوكالة «شينخوا» قائلاً: قامت فكرة التكية على تقديم شاي الصباح بالحليب مع مخبوزات بلدية، ثم تطورت لمرحلة تقديم وجبة غداء يومياً وفطور يوم الجمعة لأكثر من 300 أسرة متأثرة بالحرب في الأحياء السكنية الواقعة في شمال أم درمان.
وتعد مبادرة م. محمد عوض فقير «دعم القوات المسلحة» التي تهدف دعم أسر الشهداء والمرابطين وتوفير الغذاء والكساء والطعام والعلاج للذين يدافعون عن وطنهم الآن من أولى المبادرات وأكبرها على الإطلاق، وقد تمكن في غضون 14 شهراً من توفير مساعدات تجاوزت مبلغ 500 مليون جنيه سوداني (نحو مليوني دولار).
ولا تقتصر تلك المبادرات على العاصمة السودانية الخرطوم وحدها، بل أطلقت جماعة أنصار السُّنة المحمدية في ولاية نهر النيل مبادرة «الجسد الواحد» لغوث المتضررين من السيول والأمطار بجانب الحرب بتكلفة أولية تتجاوز 18 مليون جنيه سوداني.
للكويت نصيب
فيما أعلن سفير دولة الكويت لدى السودان د. فهد الظفيري عن وصول الطائرة الثانية عشرة في الجسر الجوي الجديد لمساعدة متضرري الحرب والسيول والفيضانات بالسودان.
وقال السفير الظفيري: تأتي هذه المبادرة انطلاقاً من التعليمات السامية لحضرة صاحب السمو أمير الكويت الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح، حفظه الله ورعاه، بالوقوف مع الأشقاء في السودان للتخفيف من كارثة الحرب والسيول والفيضانات.
ولفت السفير الظفيري إلى أن الجسر الجوي الجديد يأتي امتداداً للجسر الجوي الذي انطلق مع بداية الحرب في السودان وشمل 18 طائرة، بجانب سفينتين للمساعدات، منها سفينة حملت أدوية منقذة للحياة لمرضى السرطان بكلفة بلغت مليون دولار، كما نفذت الجمعيات والمؤسسات الخيرية الكويتية العاملة بالسودان عشرات المشروعات الإنسانية للتخفيف عن المتضررين في أنحاء السودان المختلفة.
وأعرب عن تقديره لكافة الجهود المبذولة من الجهات الرسمية والشعبية بدولة الكويت التي أسفرت عن سرعة إنجاز هذا الجسر الجوي.