ليس قطاع غزة وحده هو المحاصر، وليست دماء الفلسطينيين وحدها هي ما يُسفك ويراق على تراب الأرض المقدسة.. «الحقيقة» هناك أيضًا محاصرة، وتُسفك قدسيتها وتراق دماء أصحابها! وكما أصبحت غزة عنوانًا على الحق الفلسطيني الثابت الواضح، فإن الصحافة أيضًا أصبحت عنوانًا وشاهًدا على الإجرام الصهيوني، خاصة وقد ارتفع عدد شهداء الصحفيين منذ بدء العدوان إلى 172 صحفيًّا.
لم يكتف الاحتلال الصهيوني بمنع الصحافة ووسائل الإعلام ووكالات الأنباء العالمية من الدخول إلى القطاع، وتغطية الحرب الدائرة هناك، كما هو المتعارف عليه في كل حروب العالم، وإنما استهدف عمدًا الصحفيين الفلسطينيين المتواجدين في القطاع، فمارس قتل الحقيقة مرتين؛ مرة حين منع الصحافة العالمية من حقها في تغطية الحرب تغطية حرة مباشرة، وليس من خلال مرافقته هو، كما رضيت بذلك بعض الصحف والفضائيات فأساءت لمواثيق شرف مهنتها، ومرة أخرى حين تعمد استهداف الصحفيين الفلسطينيين الغزيين.
واستهداف الاحتلال الصهيوني الصحفيين الفلسطينيين أمر مقصود ومتعمد، وجريمة تضاف لسلسلة جرائمه في عدوانه على الأطفال والنساء والمدنيين، وعلى الحجر والشجر والأرض.
إنه احتلال لا يعبأ بأية حقوق ولا قوانين ولا أعراف، مما هو محل تقدير في دنيا الناس؛ وبالتالي، فهو لا يعرف للصحافة والصحفيين أي حقوق، اللهم إلا في حالة واحدة فقط، وهي أن تكون الصحافة بوقًا لأكاذيبه، وأداةً لتبرير جرائمه.
ولهذا، فالصحفيون هم محل استهداف من الاحتلال، تمامًا كما الأطباء، ورجال الإسعاف والدفاع المدني، والمدنيون.. بالرغم من أن هؤلاء محميون بالقانون والأعراف الدولية.
عدد مرشح للزيادة
وفي إجرام متزايد، ارتفع عدد الشهداء الصحفيين إلى 172، منذ بدء حرب الإبادة الجماعية على القطاع، وذلك بعد ارتقاء محمد عبدالفتاح عبد ربه، الذي يعمل صحفيًّا مع شركة «المنارة للإعلام»، بحسب ما أعلنه المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، يوم الأربعاء 28 أغسطس الماضي.
وفي بيان عبر قناته الرسمية بتطبيق «تليجرام»، أدان المكتب الإعلامي الحكومي بأشد العبارات استهدافَ وقتل الاحتلال «الإسرائيلي» للصحفيين الفلسطينيين، مُحملاً إياه كامل المسؤولية عن ارتكاب هذه الجريمة النكراء.
وطالب المجتمعَ الدولي والمنظمات الدولية وذات العلاقة بالعمل الصحفي في العالم، بردع الاحتلال وملاحقته في المحاكم الدولية على جرائمه المتواصلة، والضغط عليه لوقف جريمة الإبادة الجماعية، ووقف جريمة قتل واغتيال الصحفيين الفلسطينيين.
إصرار على نقل الحقيقة
الصحفيون الفلسطينيون يمارسون عملهم الصحفي وهم يعلمون جيدًا أنه عمل تحت خط النار حقيقةً لا مجازًا، وأنهم بنظر الاحتلال ليسوا مجرد صحفيين، وإنما هم فلسطينيون أيضًا، فهم مستهدَفون بهاتين الصفتين، كونهم فلسطينيين وصحفيين؛ ورغم هذا، فإنهم يؤدون واجبهم بحب، ويصرّون على مهنتهم بعشق، ويقومون بعملهم بصدق.
إن نقل الحقيقة وحدها عارية من أي تزويق أو تزييف أو مبالغة هو المطلوب، ليس إلا، وهو، ويا للأسف كفيل بإثارة حنق الاحتلال، ومضاعفة غيظه على من يشتغل بهذه المهنة!
وكما أن الاحتلال ليس بحاجة لتبريرٍ حتى يقصف المدنيين ويقتل العشرات وربما المئات في ضربة واحدة، ويهدم المدارس ومراكز الإيواء على من احتموا بها، فإنه ليس بحاجة لتبرير قتل الصحفيين!
إنهم يحملون الكاميرا، لكن هو يراهم -بعينه العوراء- يحملون أداة فضحه وهدم سردياته المفضوحة بنفسها!
هم ينقلون آهات الناس، لكنه يراهم ينقلون شواهد إدانته، وصرخات ضحاياه!
هم يبثون صور الأرض والشوارع والمستشفيات، لكنه يراهم يبثون على الهواء مباشرة سلوكه الإجرامي، ويوثقون إبادته ومجازره!
ولذا، فهو يلاحق الصحفيين مرة بعد أخرى، ويستهدفهم عن قصد، مهما ادّعى كذبًا خلاف ذلك، أو حاول أن يظهر بمظهر المتحضر وزعم أنه الجيش الأكثر أخلاقية، والأكثر حرصًا على حياة المدنيين!
إن أرقام ضحايا المدنيين عمومًا (أكثر من 40 ألفًا)، والصحفيين خصوصًا، التي فاقت كل إجرام، وتخطت كل حدود؛ لم تدع للاحتلال الغاشم أي فرصة لترويج أكاذيبه التي لم تعد تنطلي على أحد!
الدحدوح شاهدًا
لقد جاء الاستهداف المتعمد والمتكرر للصحفي البطل وائل الدحدوح، ليمثل دليلاً دامغًا على وحشية هذا الكيان الغاصب، الذي لا يرتدع بقانون ولا أعراف، بل وتم استهداف عائلته كوسيلة للضغط عليه، وفي مجزرة واحدة (25 أكتوبر 2023م) استشهد 12 فردًا من عائلة الدحدوح، منهم زوجته وابنه وابنته وحفيده؛ ثم في قصف آخر استشهد ابنه حمزة (7 يناير 2024م).
وقال الدحدوح، خلال مقابلة مباشرة مع قناة «الجزيرة»: ليس هناك ما هو أكثر إيلامًا من فقدان دمك وخاصة ابنك الأكبر، حمزة كان أنا، ورفيق روحي وكل شيء، وأضاف: نعم نبكي ونبكي، لكن هذه دموع الإنسانية، دموع الكرم والشهامة، ولكن هذه ليست دموع الخوف، أتمنى أن تكون دماء ابني آخر من يقُتل من الصحفيين ومن يقُتلوا في هذه المجزرة.
وكان الدحدوح قد أصيب في ذراعه إصابة خطيرة في القصف الذي استهدفه، والذي استشهد فيه المصور سامر أبو دقة، بعدما حاصره الاحتلال في مدرسة فرحانة بخان يونس جنوبي غزة، وهو مصاب، قرابة 5 ساعات، وظل ينزف حتى الموت.
الغول أبرز الضحايا
وفي دليل آخر يضاف إلى الأدلة الدامغة على سياسة الاحتلال المتعمدة في استهداف الصحفيين، جاء اغتيال الصحفي الشاب إسماعيل الغول (في 31 يوليو 2024م)، بعد أن برز اسمه خلال العدوان، وكان بصوته الهادئ وجسده النحيل تجسيدًا حيًّا لغزة ومعاناتها، وللقضية الفلسطينية بحقائقها الصارخة.
وقد ارتقى الغول رفقة زميله المصوّر رامي الريفي بقصفٍ «إسرائيلي» استهدفهما في مدينة غزة، بُعيد تغطيتهما لاغتيال الشهيد إسماعيل هنية، الذي ارتقى قبلهما بساعات في طهران، في رمزية تجسد اغتيال المقاوم والصحفي، صاحب البندقية والكاميرا، فالكيان الغاصب لا يفرق بينهما!
عقابًا على نقل الإبادة
وقد استنكرت جهات كثيرة وحشية الاعتداء والقصف المتعمد للغول، والريفي، ومن أبرز ذلك نقابة الصحفيين المصريين، التي أدانت ذلك ووصفته بـ«الجريمة البشعة»، وقالت في بيانها: تدين نقابة الصحفيين المصريين الجريمة البشعة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الصهيوني، وتأتي جريمة استهداف الزميلين الغول، والريفي استمرارًا للجرائم البشعة، التي ترتكبها قوات الاحتلال الغاشم، تجاه الصحفيين والعاملين بالإعلام في قطاع غزة؛ عقابًا لهم على نقل حقيقة حرب الإبادة، التي تمارسها آلة الحرب، والإبادة الجماعية، التي تمارس ضد الشعب الفلسطيني.
وأضاف البيان: تظل حشرجة صوت الزميل أنس الشريف أثناء نقله لخبر استشهاد الغول، والريفي، ووصفه لانفصال رأسيهما عن جسديهما، شهادة للتاريخ، وشهادة للعالم الصامت المتواطئ، شهادة عجزنا وقهرنا، شهادة ستظل عالقة في أذهاننا جميعًا، ونحن نشاهد الشعب الفلسطيني يباد على مدار الساعة.
نعم، إنه لثمن فادح يبذله الصحفيون الفلسطينيون، لكنهم يبذلونه عن حب لقضيتهم العادلة، ولمهنتهم التي يعتزون بها، وعسى أن يكون هذا الثمن وقودًا لتحرير فلسطين، ولحرية مهنة الصحافة.