يقرر الإسلام أن الأصل في العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين السلام والعيش بأمان واحترام حرمة الجوار فيما بينهم وبين غيرهم، وأن يترك كل قوم وشأنهم، وهذا التقرير من تحقيق الأمن والسلم بين الشعوب جاء في وقت كانت كل من الإمبراطورية الرومانية والفارسية تبسطان نفوذهما بالاحتلال على بلاد الجوار، ومنها الجزيرة العربية، وفي الوقت ذاته، كانت القبائل متناحرة يغير بعضها على بعض، ويقتل بعضها بعضاW، فجاءت الآيات القرآنية لتقرر أن الأصل في العلاقات بين الشعوب والدول هو السلام وحسن الجوار، كما قال تعالى: )لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8).
على أن الأطماع السياسية للدول والقبائل لا تنتهي، فمهما وجدت من قوانين دولية فأطماع الدول القوية جاثمة فوق الدول والشعوب الضعيفة، ضاربين بالقوانين الدولية التي وافقوا عليها ضرب الحائط، وعلى الضعيف أن يقبل باحتلاله، أو يظل يستجدي النظام الدولي على موائده التي لا نفع فيها.
ولما كان الإسلام نظاماً شاملاً لمناحي الحياة، فإنه مع حرصه الشديد على السلام والأمن، فقد أوجب على أتباعه الدفاع عن الأوطان ضد الغزاة المحتلين حتى لو كلفهم ذلك بذل الأرواح والأموال، وهي فلسفة تبين أن الجهاد في سبيل الله إنما مقصوده صد الاعتداء الذي يقوم به الكفار ضد المسلمين، وأن تشريع الجهاد مقصده إحلال السلام العالمي، لأن امتلاك القوة يعني منع الغزاة الطغاة من التفكير في احتلال بلاد المسلمين، فيأمن المسلمون، كما يأمن الكافرون، كما قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) (الأنفال: 60)، فقوة السلاح والعتاد ترد وساوس الغزاة الظاهرين، ووساوس من يظهر المحبة وهو يبطن العداء ويتبرص بنا أن يحتل أعداءنا على غفلة منا.
ولهذا كانت الحرب شراً لا بد منه إن اعتدي على أوطان المسلمين، بل إن اعتدي على أي وطن آمن لا يعادي غيره، ولهذا مكث المسلمون سنوات يُعذَّبون ويُقتَلون ولم يؤذن لهم بالدفاع عن أنفسهم حتى نزل قوله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ {39} الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ) (الحج)، والإذن يأتي من بعد المنع، ومن هنا كان خوض المسلمين الحرب مع غيرهم من باب الاضطرار غير المحبوب إلى نفوسنا، وقد كشف القرآن الكريم عن تلك الرغبة الكامنة من عدم خوض الحرب والميل إلى غيره، لكن لله حكم وحكمة في قطع دابر الغزاة المعتدين، كما قال سبحانه: (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ) (الأنفال: 7).
فالحرب في شريعة الإسلام استثناء من الأصل وهو السلام، وأننا لا نخوض حرباً إلا في حال الاعتداء علينا، ورغم الاعتداء علينا؛ فإن الإسلام وضع أخلاقاً وضوابط يجب امتثالها أثناء رد اعتداء المعتدين علينا، فيحرم قتل الشيوخ والنساء والأطفال وكل من لا يشارك في الحرب من أهل العبادة، كما يحرم الغدر؛ «ولا تغدروا»، وفي الحرب يحرم الإفساد في الأرض، وإن قتل كافر؛ فلا يجوز التمثيل به بعد موته، كما أوجب الإسلام الإنفاق على الأسير وحسن معاملته، كما قال تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) (الإنسان: 8).
والوصية بالإحسان إلى الأسير ما زالت باقية في هذه الأمة منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وستظل باقية إلى أن يقوم الناس لرب العالمين.
والتساؤل هنا: هل يجوز قتل أسير الحرب الذي جاء من بلاده ليعتدي على وطننا وأموالنا ومقدساتنا؟ وكيف يستقيم ذلك إن كان ممكناً، مع ما ورد في الكتاب والسُّنة من الإحسان إلى الأسير؟
حكم قتل الأسير
أما حكم قتل الأسير في الحرب، فقد اختلف الفقهاء على رأيين؛ الأول: جواز قتل الأسير، وهو رأي جمهور الفقهاء، والثاني: عدم جواز قتله، هذا من حيث العموم، أما من حيث التفصيل المجمل، فهو كالآتي:
أولاً: لا يجوز قتل الأسرى من النساء والأطفال، قال الرافعي في «الشرح الكبير» (11/ 91): وأما النساء والذراري والولدان، إذا وقعوا في الأسر والضبط، فيحبسون إلى انقضاء القتال، ثم يخلى سبيلهم؛ لأنه لا يؤخذ عليهم الطاعة والبيعة على الجهاد، هذا هو الظاهر، والحكمة من ذلك أن النساء والصبيان ليسوا من أهل القتال في الأصل.
ثانياً: أما المحاربون، فلا يجوز للجندي أن ينفرد بقرار قتل الأسير، فالفصل في ذلك يعود للحاكم أو من يقوم مقامه.
ثالثاً: يرى جمهور الفقهاء أن للحاكم أو من ينوب عنه أن يحكم بقتل الأسرى المحاربين؛ إن رأى في ذلك مصلحة، وله أن يحكم بعدم قتلهم؛ بناء على ما يراه أفضل؛ وفق المعطيات والمعلومات التي تقوم على الموازنة بين المصالح والمفاسد في حال قتلهم، وهذا رأي المذاهب الأربعة من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وإن اختلفوا فيما بينهم في الأمور التي يخير الحاكم فيها، وهي: القتل والرق والمن عليهم بجعلهم من أهل الذمة ودفع الجزية، وهو مذهب الحنفية، وزاد المالكية: العتق، أو الفداء، ويرى الشافعية أنه إن لم يظهر وجه المصلحة فللحاكم أن يحبسوهم حتى يظهر له القرار.
وذهب بعض الفقهاء إلى عدم جواز قتل الأسير مطلقاً، وحكى الحسن بن محمد التميمي أنه إجماع الصحابة، وانتصر له الحسن البصري، وأن الحاكم مخير بين المن أو الفداء، واستدلوا بقوله تعالى: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) (محمد: 4)، ورد على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل بعض الأسرى في أكثر من موطن، كما استدل الجمهور بقول الله تعالى: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (التوبة: 5)، وجمع بعض الفقهاء بين الرأيين ووفق بين الآيتين، فكل ذلك جائز وفق ما يرى الحاكم، حسبما تقتضيه المصلحة، واستثنى بعض الفقهاء مجرمي الحرب إن وقعوا في الأسر، فهؤلاء يقتلون؛ لشدة خطرهم.
رابعاً: أن التوفيق بين جواز قتل الأسير وحسن معاملتهم، أن الأمر بحسن المعاملة إذا قرر الحاكم وصاحب الأمر ألا يقتله.
ومن هنا يتبين أن الإسلام يجعل الأصل في العلاقة مع غير المسلمين السلام، لكنه يوجب الجهاد وصد الاعتداء والدفاع عن الأوطان، وأما الأسير فالحاكم ومؤسسات الدولة المعنية هي جديرة بأخذ القرار المناسب في ذلك، فقد قد يكون من المصلحة إبقاؤهم؛ لفداء أسرى المسلمين، وقد يكون من المصلحة قتلهم خاصة إن كانوا مجرمي حرب حتى يرتعدوا، وكل ذلك يجب أن يكون فوق دراسات ومشاورات من الناحية السياسية والدبلوماسية والعسكرية، ومثل هذا القرار ليس للأفراد، بل هو قرار دولة.