اللغة صانعة للهوية، وإحدى أدوات تذويبها، فتغيير اللسان مدخل لتغير الوجدان، وتغيير خريطة الأعداء والأصدقاء، وكما قال المفكر عزت بيجوفيتش: «اللغة يـــد المخ»، هذا التلاحم أدركه الاستعمار منذ نزوله إلى الأرض العربية، فكان العداء للغة العربية والإسلام معاً، وكان السبيل لإضعاف روح المقاومة وإعادة هندسة المجتمعات العربية والمسلمة بما يتوافق مع المصالح الاستعمارية، من خلال إزاحة اللغة، واستبعاد الإسلام.
استندت الرؤية الاستعمارية على خبرات تاريخية للغات مندثرة، فعندما تم عزلها عن حياة الناس، وتحويلها إلى لغة متحفية طقوسية، وفك الترابط والالتحام بين اللغة ومصالح الناس وتداولهم،، وتركها لتتوارى بعيداً في أروقة المعابد، ومنحها الوقت الكافي للموت، وعندها تموت اللغة، لتفقد الهوية أهم مرتكزات تشكلها.
يؤكد الروائي الكيني نجوجي وا ثيونجو، أحد مرشحي جائزة «نوبل للآداب»، في كتابه «إلغاء استعمار العقل»، أن الاستعمار لجأ إلى خطوتين متلازمتين لمواجهة اللغة في البلاد التي استعمرها؛ الأولى: الإطاحة بالثقافة المحلية والدين والتاريخ والتعليم والأدب، والثانية: الإعلاء من شأن لغة المستعمر.
كانت هذه هي السياسة التي انتهجها الاستعمار في المنطقة العربية منذ القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين، فقمع اللغة العربية كان عنيفاً، وبلا هوادة، لكن التجربة الاستعمارية الفرنسية في البلاد المغرب مثلت النموذج الصارخ لقمع العربية.
منهجية المواجهة مع العربية
أدرك الاستعمار أن ازدهار اللغة العربية يعني استحضار الإسلام بقوته وثوريته، واستنهاض الهوية وروح المقاومة والإحساس بالكرامة وإيقاظ الوعي؛ لذا لجأ الاستعمار إلى سياسات وأدوات لمواجهة العربية، حتى لا تكون لغة حياة، وحتى لا تصوغ هوية مناهضة للاستعمار، والعمل على تحويل العربية تدريجياً للغة متحفية طقوسية، قليلة النفع لمن يتقنها ويتكلم بها.
– اضطهاد معلمي العربية: لجأ الاستعمار إلى منع اللغة العربية وإجبارها على الانسحاب، فمع الاستعمار الفرنسي للجزائر، ومع الاضطهاد، خرجت أعداد كبيرة من معلمي العربية خارج الجزائر، ونُفي آخرون؛ وهو ما ساهم في إضعاف العربية، فمثلاً وجد عام 1883م في دمشق وحدها أكثر من 4 آلاف من الجزائريين غالبيتهم من النخب المثقفة.
ومع إنشاء مدرسة لتخريج المعلمين في الجزائر، لم يحصل الطالب أثناء الدراسة إلا على 3 ساعات فقط لتعلم اللغة العربية؛ وهو ما يعني إضعاف التكوين اللغوي بالعربية لهؤلاء المعلمين، ومن ثم ينتقل هذا الضعف إلى الطلاب، وفي العام 1945م فرض على كل معلم للغة العربية أن يتقن الفرنسية، إذا أراد أن يُوَظف، وهذا أقصى الكثير من معلمي العربية من وظائفهم.
– الإقصاء من التعليم: كان الاحتلال يسعى لطمس اللسان العربي وتنحية الإسلام، وكانت عينه على الأجيال الجديدة، وكان الاتجاه لإعاقة اللسان العربي منذ الصغر، من خلال التعليم بالفرنسية، كانت الجزائر النموذج الصارخ، فأصدر الاستعمار مجموعة من قوانين لإقصاء العربية، وإجبار الجزائريين على استخدام الفرنسية، فبموجب قانون صدر عام 1838م، تم استبدال الفرنسية بالعربية ، واعتبار العربية لغة أجنبية، وترافق مع ذلك محاربة وإغلاق الزوايا والمراكز الثقافية والمعاهد التي تعلم العربية، وقال الدوق دومال، الوالي العام على الجزائر خلال الثمانينيات من القرن التاسع عشر: «إن فتح مدرسة في أوساط الأهالي لا يقل أهمية عن فيلق من الفيالق العسكرية لإخضاع البلاد».
وقد جرى التوسع في إنشاء المدارس الفرنسية، ففي عام 1850م تم افتتاح 6 مدارس ابتدائية، أُطلق عليها «المدارس العربية الفرنسية»، وعندما وجد الاستعمار أن هناك إقبالاً على المدارس القرآنية لأنها تعلم العربية، صدر مرسوم عام 1890م بتحويل مدارس الكتاتيب إلى المدارس العربية الفرنسية.
وصدر مرسوم عام 1904م الذي يمنع أي معلم من فتح مدرسة قرآنية إلا بترخيص من السلطات بعد التزامه بجملة من الشروط التعجيزية، ثم صدر قانون 8 مارس 1938م المعروف بقانون «شوطون» القاضي بحظر استعمال وتعلم اللغة العربية، بل واعتبارها لغة أجنبية.
وفي تونس، وعقب خضوعها للحماية الفرنسية عام 1881م، تم تأسيس مديرية التعليم العمومية برئاسة الفرنسي لويس ماشويل، الذي استمر في وظيفته حتى العام 1908م، وسعى إلى عدم تكرار أخطاء الاستعمار الفرنسي تجاه العربية في الجزائر، ورأى أهمية تهميش العربية في المجال التعليمي تهميشاً لا يثير غضب الأهالي، فكان الاتجاه لتعليم الفرنسية للطبقة الميسورة، وهؤلاء هم من سُيفتح لهم أبواب العمل وسلك الإدارة، لكن الأهم في مشروع ماشويل أنه سعى لعدم إثارة الحساسيات الدينية؛ ففصل بين التبشير وتعليم الفرنسية، مع إبقاء التعليم باللغة العربية، ولكن في ظل ازدواجية تعليمية، وتشير إحصاءات على التوسع في المدارس فوصلت عام 1919م إلى 350 مدرسة، ضمت أكثر من 51 ألف طالب، والكثير من هؤلاء تأثر بالثقافة واللغة الفرنسية.
أما المغرب، فمنذ فرض الحماية عليه، أصدر المارشال ليوطي، في يونيو 1921م، قراراً لممثليه في المناطق المغربية، يأمرهم بالعمل على طمس العربية واللغات المحلية لصالح الفرنسية، ونجح الاستعمار خلال 20 عاماً في جعل الفرنسية اللغة الأساسية في الإدارات، ودعا ليوطي إلى ضرورة دفع الأمازيغ نحو الفرنسية، وعلل ذلك بقوله: «إن العربية عامل من عوامل نشر الإسلام، بينما تقتضي مصلحتنا أن نطور البربر، خارج إطار الإسلام».
وكانت تلك رؤية جورج هاردي، مدير التعليم في المغرب خلال المرحلة الاستعمارية، «أن القوة تبني الإمبراطوريات، ولكنها ليست هي التي تضمن لها الاستمرار والدوام، إن الرؤوس تنحني أمام المدافع، في حين تظل القلوب تغذي نار الحقد والرغبة في الانتقام، يجب إخضاع النفوس بعد أن تم إخضاع الأبدان»، وكانت اللغة العربية ذات تأثير كبير في تشكيل الهوية المنفصلة عن الاستعمار الفرنسي.
– الاهتمام بالعامية واللغات الدارجة: اهتم الاستعمار بتقوية الدعوة إلى العامية، ودراسة اللهجات المحلية، ووضع معاجم لها، ومحاولة تأطير قواعد لغوية لها، فنجد أن الكثير من الدراسات الاستشراقية تجاهلت العربية الفصيحة، فبدءاً من العام 1890م انطلق الاستشراق في الجزائر إلى دراسة اللهجات الجزائرية، فدرس كل مستشرق لهجة، وكان الهدف من ذلك الوصول لأصولها اللغوية ومحاولة صياغة قواعد لتلك اللهجات.
وكان أول من حث على العامية المستشرق الألماني ولهلم سبيتا الذي نزل مصر، وعاش في أحيائها، ودرس العاميّة، ووجد أنها تختلف من بلد إلى بلد، ومن حي إلى آخر، ودعا للتخلص من العربية، وأصدر عام 1880م كتابه «قواعد اللغة العامية في مصر».
كانت هذه الدعوة من أشد الأدوات الاستعمارية في مواجهة العربية، وهي دعوة استمرت عقوداً طويلة، ففي مصر دعا مهندس وخبير الري الإنجليزي وليم ويكوكس إلى العامة في محاضرة له عام 1883م بعنوان «لمَ لَمْ توجد قوة الاختراع لدى المصريين الآن؟»، وزعم أن العامل الأكبر في فقد قوة الاختراع لدى المصريين استخدامهم العربية الفصحى في القراءة والكتابة، ونصحهم باستخدام العامية في الكتابة لكي يصيروا مخترعين، وأيد هذه الدعوة سلامة موسى واحتفى بها في كتابه «اليوم وغداً».
– الدعاية السوداء ضد العربية: اتُهمت العربية، خلال الفترة الاستعمارية، بأنها لا تصلح كلغة للعلم، ولا للمعرفة، ولا تستطيع أن تنهض بعبء التقدم والإصلاح، كان الانتقاص كبيراً للعربية، وكانت الدعوة لنبذها علنية، وأن تكتب العربية بالحرف اللاتيني، ورسخ الاستعمار في أذهان الكثير من الطبقة المتعلمة في تلك الفترة أن سبب التخلف يرجع إلى العربية، ولجأ الفرنسيون لخلق علاقة بين التقدم واللغة.
يقول المؤرخ المغربي عبدالهادي التازي: «الفرنسية دخلت إلينا في المغرب عن طريق مستعمر ذكي جداً، عرف كيف يغرس لغته داخل البيوت، وهو ليس مثل الاستعمار الإنجليزي الذي كان يكتفي بالوقوف عند البوابات بالخارج ليحصل على الإيرادات والجمارك والبترول».
ولعل تلك الدعاية السوداء ضد العربية، دفعت الشاعر حافظ إبراهيم للدفاع عن العربية في قصيدته الشهيرة، ومما جاء فيه:
وَسِعتُ كِتابَ اللَهِ لَفظاً وَغايَةً وَما ضِقتُ عَن آيٍ بِهِ وَعِظاتِ
فَكَيفَ أَضيقُ اليَومَ عَن وَصفِ آلَةٍ وَتَنسيقِ أَسماءٍ لِمُختَرَعاتِ