كاتب المدونة: أنس شَودُهْري (*)
في بنغلاديش نوعان من المدارس الشرعية، مدارس حكومية، وهي المسماة في بنغلاديش “بالمدرسة العالية”، ومدارس أهلية، غير حكومية، وتسمى بـ”المدرسة القومية”، نتحدث في هذا المقال عن المدارس الأهلية.
في بنغلاديش أكثر من عشرين ألف مدرسة شرعية أهلية، ما بين جامعات كبيرة ومدارس صغيرة، فلا تنزل في مدينة من المدن أو في قرية من قرى بنغلاديش إلا وترى فيها مدرسة أو أكثر من هذا النوع من المدارس، وهي التي تقوم بالحفاظ على الشخصية الإسلامية، وتقوم بتكوين آلاف مؤلفة من حفظة القرآن الكريم والخطباء والأئمة والوعاظ والمدرسين والدعاة والعلماء والكتاب والفقهاء والمفتين والمحدثين.
فبنغلاديش رغم كونها بعيدة عن البلدان العربية، لكن فيها مئات الآلاف من العلماء والعاملين في مجال التربية والتعليم الشرعي، والفضل في ذلك يرجع -بعد توفيق الله ورحمته- إلى هذه المدارس الأهلية، والسر في ذلك أن هذه المدارس لا تتقرب من الحكومة والتي تتبنى في الأغلب الأفكار الغربية من العلمانية واللبرالية وتعتمد على الأسس الديمقراطية، التي تعارض المبادئ والتعاليم الإسلامية الأساسية في الجملة والتفصيل، ومن ثم لا تأخذ هذه المدارس من الحكومة أي دعم مادي، حتى لا تطمح الحكومة إلى فرض تعاليمها ومبادئها على المدارس الأهلية، فتتأثر بها المدارس وتتعرقل أعمالها الأساسية من الحفاظ على التعليم الصحيح للدين الإسلامي والشخصية المسلمة.
وهذه المدارس إنما تأسست بناء على المبادئ التي اتخذتها دار العلوم ديوبند منذ نشأتها في عهد الاحتلال الإنجليزي سنة 1866م، والتي تعتبرها هذه المدارس “أم المدارس” لها، وكان من بين تلك المبادئ أن لا تأخذ مدرسة ديوبند أي تبرع ودعم مالي من الحكومة، بل تعتمد في تكاليفها على الله ثم على ما يقدمه الشعب المسلم من التبرعات، قليلة كانت أو كثيرة، حتى تبقى هذه المدرسة ما دام الشعب المسلم باقيا، ولا تزول بزوال الدولة والحكومة، كما حدث في المدارس الشرعية في عهد الإمبراطورية المغولية، حيث تعطلت المدارس كلها أو جلها بل أغلقت بعد انقراض الدولة المسلمة.
ومن ثم قررت المدارس الأهلية أن تتجنب عن الحكومات والدعم الحكومي بجميع أشكاله، لكن نتيجة عن هذا القرار وقعت المدارس الأهلية في قلة من الموارد المالية، فلا ترى فيها -في الأغلب- بريق العصر الجديد من التقدم والتطور في المباني، ومن التسهيلات ومرافق الحياة اللازمة، إلا بقدر الكفاية، كما أن الأساتذة لا يحصلون إلا رواتب رمزية، لا تتصور في هذا العصر، كما أن المتخرجين منها لا يمكنهم نيل الوظائف الحكومية أساسا، هذه مشاكل محورية، لكن أبناء هذه المدارس وأساتذتها على معرفة، ويعرضون عنها وعن مصالحهم الشخصية، نظرا إلى مصالح المسلمين وتحقيقا لحوائجهم الدينية، حيث لو تخلوا عن هذا النظام التعليمي الواسع، لحصل خلل كبير في الأعمال الدينية، فمن يؤم المصلين في المساجد؟ ومن يعظهم؟ ومن يفتيهم؟ ومن يكوّن جيلا من العلماء والدعاة والكتّاب والخطباء، الذين يقودون الناس ويوجهونهم دينيا؟ ومن يقوم أمام التيارات الغربية الجارفة والمعارضة للإسلام في هذه الديار؟ فالحكومة العلمانية القائمة لا تقوم بذلك أبدا، بل تنتهز هذه الفرصة انتهازا تاما، نظرا إلى كل ذلك يقوم طائفة من أبناء المسلمين فيلتحقون بهذه المدارس، ويدرّسون فيها ويشرفون عليها، ويوسعون دائرتها في طول البلاد وعرضها، بإنشاء مدارس جديدة، حسب المقتضيات.
وهذه المدارس الأهلية واجهت في بنغلاديش تضييقات بعد حرب الاستقلال سنة 1971م، في عهد حكومة رابطة عوامي، المعروفة بشدة تمسكها بالمبادئ العلمانية، بقيادة الشيخ مجيب الرحمن، الموالي للهند، ثم واجهت أكبر التحديات في عهد حكومة بنتها الشيخة حسينة، سنة 2009م، فهي بعد أن فرضت سيطرتها على البلاد والعباد، شددت بطشتها على طوائف، منها “الجماعة الإسلامية”، ومنها “المدارس الشرعية الأهلية”، لكن السؤال، لماذا شددت الشيخة حسينة بطشتها على المدارس الشرعية الأهلية، بينما لا يوجد لدى أبناءها وعلماءها طموح إلى السلطة والحكم؟
وهذه المدارس إنما تعمل في نطاقها الديني الخاص، ولا تهدد حكومتها؟ لكن حكومة الشيخة حسينة اتخذت لفرض التضييقات على هذه المدارس وسائل مختلفة ومتنوعة، والسبب وراء الموقف المعادي لحكومة حسينة تجاه المدارس الشرعية أنها رأت هذه المدارس أكبر مانع وحاجز دون فرض الثقافة الغربية والهندوسية، في المقررات الدراسية الحكومية ووهي أكبر معارض لها في نشر الأفكار العلمانية في المدارس والمجتمع، وأبناء هذه المدارس هم الذين يتحدون الحكومة بصراحة وبصرامة في القضايا الدينية إذا أرادت الحكومة المساس بها، وعلماء هذه المدارس هم الذين يلقنون عامة المسلمين التعاليم الإسلامية، التي تأبي الظلم والعدوان، والتي تأمرهم بالتمسك بالحق والعدل والإنصاف، وبذلك أصبحت هذه المدارس الشرعية الأهلية غرضا أوليا لضربها، وهدفا للطعن فيها والبطش بها.
ومن الوسائل التي اتخذت حكومة حسينة للتضييق على هذه المدارس الأهلية هي” مسرحية الإرهاب”، فنشرت الحكومة عبر وسائل الإعلام الحكومي وغير الحكومي دعايات مكثفة ضدها بأنها ترعى الإرهاب، وتكوّن “جماعات إرهابية”، فوصفت بأن هذه المدارس “مولد الإرهاب”، وتدرس المواد التي تحرّض على الإرهاب و”التطرف” أو تلقّن طلابها “الأفكار الأصولية”، وسخرت لتحقيق هذا الهدف القوى المختلفة، من الشرطة والطبقة المثقفة وأساتذة الجامعات الحكومية والكتاب والمفكرين الموالين للحكومة الفاشية، حتى المسؤولين في الحكومة، من الوزراء وأعضاء البرلمان تورطوا في نشر هذه الأكاذيب، فكانت تلك الأيام شديدة على المدارس وأبناءها، إلا أن العلماء وطلبة المدارس صمدوا أمام هذه المعادات والتضييقات، وصبروا على الطعن والاتهام والسخرية من أطياف من المجتمع، وقد ذكرنا أن هذه المدارس تجري بتبرعات من عامة المسلمين أساسا، ومن ثم توجد علاقة وثيقة بينها وبين عامة المسلمين، وهذه العلاقة الجماهيرية ساعدت -بعد فضل الله وتوفيقه- في إفشال خطة الحكومة الفاشية، حيث خابت في إثبات هذه الأكاذيب المفتعلة.
بل اضطرت الحكومة إلى الإعلان بأن هذه المدارس لا علاقة لها بالأعمال الإرهابية، وأبناء هذه المدارس مواطنون طيبون، لكن ما زالت ثلة من الطبقة المثقفة العلمانية ووسائل الإعلام العلماني المتطرف تتمسك بهذه الأكاذيب ولا تزال تنشرها تارة بعد أخرى.
لكن سرعان ما اتخذت الحكومة وسيلة أخرى، وهي أن هذه المدارس وعلماءها وطلبتها أعداء بنغلاديش، لا يحملون في قلوبهم الحب والوفاء للوطن، وهم أعداء “حرب الاستقلال” سنة 1971م، ولا يعتقدون بـ”رؤية حرب الاستقلال” (المقدسة عندهم)، فهم لا يستحقون الإقامة في ارض بنغلاديش، بل عليهم أن يذهبوا إلى باكستان، هكذا مارست العدوان والغطرسة على هؤلاء العلماء، واتخذت ذلك سلاحا فتاكا بيدها، يطعن به كل من ليس معها، على قاعدة: “إن لم تكن معي فأنت عدوي”.
لكن ما علاقة هؤلاء الطلبة والعلماء الذين ولد أغلبهم في بنغلاديش، بعد حرب الاستقلال، وكيف لهم أن يعادوا حرب الاستقلال، وهم يصفونها بالحرب بين المظلوم والظالم، وهل عليهم أن يظهروا الحب والوفاء لوطنهم كما تفرضه الحكومة، بطريقتها الخاصة؟ لقد طرح العلماء هذه الأسئلة بقوة في المنصات المختلفة، وبذلك شعر أغلب المواطنين بأن الحكومة بإعلامها ومفكريها تتلاعب بمشاعر الناس بشعارات مغلوطة براقة.
ولم تكتف الحكومة الفاشية بذلك ولم تنته دعاياتها هنا، فقامت بحملات واسعة في وسائل الإعلام بأن هذه المدارس متورطة بأعمال العنف والجرائم، لذلك يجب على الناس أن يبغضوها ويتنفروا عنها، ويمنعوا أبناءهم وأولادهم منها، وكانت تهدف إلى تشويه صورة المدارس لدى أولياء الأمور.
إلا أن المتيقظين من الناس اعترضوا على هذه الحملات المتعمدة بأن الدولة لديها قانون، إن ثبتت جريمة من الجرائم في هذه المدارس الكثيرة، (وليس من المستحيل أن يحدث بعض الجرائم، بحكم كونهم بشرا) فلتنقل القضية إلى المحاكم، ولتقم الجهات المعنية بالتفتيش ولتعاقب المتورطين، لكن لماذا هذا التعميم المتعمد؟ إن حدثت حادثة من شخص، فهو الملوم والمعاقب، لكن لماذا تتحمل المدارس كلها تبعات جريمته؟
ولما فشلت هذه المساعي المعادية اتخذت الحكومة وسيلة أخرى، وقبل أن أتحدث عنها، يحسن بي أن أوضح أمرا، وهو أن المتخرجين من هذه المدارس لا تعتبرهم حكومة بنغلاديش متعلمين، بل تعدهم أميين، لم يقرؤوا شيئا، مع أن طلاب هذه المدارس مقرراتهم قوية جدا، فهم يدرسون الصرف والنحو والبلاغة والفقه وأصوله والتفسير وأصول التفسير والحديث وعلومه، والصف النهائي عندهم يسمى “دورة الحديث”، يدرسون فيه الكتب الستة للحديث النبوي، إضافة إلى شرح معاني الآثار والموطأ برواية يحيي بن يحيي ومحمد بن الحسن، وكذلك شمائل الترمذي، فهي لا تقل عن درجة الماجستير نظرا إلى المستويات التعليمية في الجامعات العصرية، فيرى العلماء والطلاب بأن هذا التصرف من الحكومة تصرف غير لائق، ومزدري، وغير معقول، بل فيه حرمان حقوقهم المدنية. لذلك كانوا طلبوا شهادة المعادلة بدرجة الماجستير منذ سنوات.
وهنا وجدت الحكومة ضالتها، فأرادت أن تفرض عليها سيطرتها وتتحكم بها بجعلها مقربة منها، فدعت العلماء والمشايخ وطمأنتهم بأن الحكومة عازمة على منح المدارس الشهادات التي يريدونها، وفعلا أعلنت على استعجال بمن من تخرج من هذه المدارس ينال شهادة الماجستير في العلوم الإسلامية والعربية، ولكن بعد هذا الإعلان ضجت أصوات الإعلام المحلي والعالمي العلماني بأن حكومة حسينة حكومة علمانية، فكيف لها أن تعطي المدارس الأهلية شهادات الماجستير؟
وهنا أظهرت الحكومة ما دبرته خلف الستار، فصرحت حسينة بأنها تهدف إلى جعل هذه المدارس الشرعية الأهلية في النظام الحكومي العام، (حتى تتمكن من التحكم عليها في مقررات المدارس وتعيين الأساتذة ونظمها الداخلية)، وكان كلام أحد مستشاريه أوضح، حيث قال في مقابلة مع DW الألمانية بأن الحكومة تهدف علمنة هذه المدارس، وتخرجها من وضعها الحالي.
لكن قدر الله كان مختلفا، حيث بقيت المدارس بطلابها وعلماءها وخدماتها وجهودها، وفرت الشيخة حسينة ووزراءها وأعضاء برلمانها إلى الهند وغيرها، وصاروا يعيشون لاجئين فيها، ومبغوضين لدى الشعب البنغالي في نفس الوقت.
________________________
(*) أستاذ الفقه والعربية بدار الإرشاد والدعوة بنغلاديش، كاتب ومترجم وباحث.