انعقد اجتماع دول “جوار ليبيا” في 4 ديسمبر بالعاصمة السودانية (الخرطوم) في ظل تغيرات داخلية في ليبيا تثير القلق من الدخول في مرحلة الفوضى، وكان من الملاحظ اختلاف أولوليات القضايا التي تناولتها الاجتماعات التي عقدت منذ مايو 2014م، ولعله من الأهمية هنا
انعقد اجتماع دول “جوار ليبيا” في 4 ديسمبر بالعاصمة السودانية (الخرطوم) في ظل تغيرات داخلية في ليبيا تثير القلق من الدخول في مرحلة الفوضى، وكان من الملاحظ اختلاف أولوليات القضايا التي تناولتها الاجتماعات التي عقدت منذ مايو 2014م، ولعله من الأهمية هنا مناقشة تطور مواقف دول الجوار تجاه الأزمة السياسة في ليبيا والتغيرات التي طرأت عليها.
أولويات جوار ليبيا:
بدأت أعمال الاجتماع الوزاري الخامس لدول جوار ليبيا في سياق سلسلة من الاجتماعات لمناقشة التطورات السياسية في ليبيا، حيث تسعى لوضع سياسات تتصدى ثلاثة ملفات: وهي: دعم الحكومة والمؤسّسات الليبية، وبحث القضايا الأمنية المشتركة بين دول جوار ليبيا، واعتماد مبادرة للتحرّك الجماعي لإرساء حوار وطني ليبي واستكمال تحقيق العدالة الانتقالية.
وقد بدأت هذه الاجتماعات في الجزائر يومي 27 و28 مايو 2014م على هامش المؤتمر الوزاري السابع عشر لدول عدم الانحياز، وكان الاجتماع الثاني خلال اجتماع الاتحاد الأفريقي بـ”مالابو” يومي 26 و27 يونيو 2014م، فيما كان الاجتماع الثالث في “الحمامات” في 14 يوليو والرابع بالقاهرة في 25 أغسطس 2014م.
ويلاحظ أن تكرار انعقاد الاجتماعات يتلاقى مع التدهور السريع للأزمة السياسية والأمنية في ليبيا، غير أن غياب إطار لدورية الاجتماعات يمكن أن يؤدي لاتساع الفترة الزمنية حتى انعقاد الاجتماع السادس، وخصوصاً مع ترك تحديد موعده للتشاور بين وزراء الخارجية وفقاً للتطورات السياسية.
وقد حدد البيان الختامي لاجتماع تونس ترتيب مهام ودور مجموعة “دول الجوار”، وذلك وفق ثلاثة مبادئ؛ الأول من الأولويات متجهاً نحو إعادة بناء الدولة وتعزيز الأطر السلمية، والمبدأ الثاني تمثل في بذل جهود مشتركة لمكافحة الإرهاب كتوجه سياسي دون توجيه اتهام لأي من الأطراف الليبية، وهو ما يتسق مع الصياغات التمهيدية لبياني القاهرة والخرطوم، ففي اجتماع 25 أغسطس اعتبرت دول الجوار أن من مهامها “حشد الدعم للمؤسسات الليبية الشرعية”، واعتبرت مجلس النواب والهيئة التأسيسية هي السلطات الشرعية.
وكان المبدأ الثالث في اجتماعات “جزار ليبيا” هو الالتزام بوحدة ليبيا وسلامة أراضيها بين الاجتماعات الثلاثة الأخيرة، وهو إدراك يتصدى للتطلعات الانفصالية، وثمة اعتقاد بأن مسالة وحدة ليبيا استحوذت على الكثير من المناقشات الإقليمية والدولية، بشكل يقلص فرص المطالبة بالانفصال، سواء بسبب تعقيدات التركيبة الاجتماعية والجهوية في ليبيا، أو لعدم توافر الظروف الإقليمية والدولية لظهور دولة جديدة في شمال أفريقيا.
وإذا كانت مسالة وحدة ليبيا تمثل قاسماً مشتركاً بين كثير من البلدان، فإنه حدث اختلاف حول الموقف تجاه التطورات السياسية، فكان من الملاحظ وجود تباين بين اجتماع القاهرة واجتماعي تونس والسودان، فبينما اتجه بيان القاهرة على الاستغراق في الإجراءات، اتجه بيانا تونس السودان لتقرير المبادئ حيث تناولا الأزمة في ليبيا وفق منهج يؤدي لتعزيز الحل السياسي الذي يحفظ وحدة ليبيا واستقرارها.
تراجع سياسات التدخل:
وبينما ربط اجتماع الخرطوم وقف العمليات المسلحة لتهيئة المناخ للحوار السياسي، فإن اجتماع القاهرة انخرط في ترتيب إجراءات أمنية تستهدف الجماعات التي صنفها بـ”غير الشرعية”، وهي سياسة لا تتباعد مع التمهيد للتفاوض أو التهدئة، فضلاً عن أنها تضع الكثير من المعوقات أمام التفكير في أفق سياسي سلمي.
ورغم أن البيان الختامي لاجتماع 25 أغسطس أكد عدم التدخل في الشؤون الداخلية لليبيا والحفاظ على استقلالها السياسي، فإنه تضمن في ثناياه مبررات للتدخل تحت ذرائع محاربة الإرهاب، فالفكرة التي وردت في البيان اتجهت فقط لتمكين الدولة الليبية من استعادة وبسط سلطتها وسيادتها على كامل التراب الليبي، وذلك وفق إجراءات يكون من بينها استخدام السلاح لوقف نشاط الجماعات المسلحة والتصدي للإرهاب والعنف، وهي توجهات تسعى لخلق مبررات التدخل العسكري تحت ادعاء مساندة الحكومة الشرعية.
وقد جاءت مقررات اجتماع القاهرة في سياق احتدام الصراع المسلح في ليبيا، وفي ظل تطلعات باقتراب عملية “الكرامة” من تحقيق انتصار سياسي وعسكري، وهو ما يمكن تفسيره بمجموعتين من العوامل؛ عوامل داخلية في ليبيا وأخرى إقليمية ودولية، فعلى المستوى الداخلي، ساهم تشكيل مجلس النواب في طبرق في منح دفعة قوية لعملية “الكرامة” ومساعيها لأجل احتواء المؤسسات الليبية والسيطرة عليها، أما على المستوى الخارجي، فقد زادت عوامل القلق لدى بعض الأطراف الإقليمية، من تنامي عملية “فجر ليبيا” وسيطرتها على مناطق واسعة.
يصعب القول بوجود علاقة مباشرة بين الموقف المصري والصيغة النهائية لبيان القاهرة، وذلك رغم التقارب الواضح مع المجموعات الموالية لـ”حفتر” واعتبارهم القوة العسكرية الشرعية كامتداد لمجلس النواب والحكومة، ولذلك ترى أن استثناءهم من حظر السلاح أو دعمهم دبلوماسياً عملاً قانونياً.
وهو موقف يتلاقى مع أولويات اجتماع القاهرة والتي اتجهت بشكل واضح لتجريد “فجر ليبيا” من عناصر قوتها، حيث ركزت، ليس فقط على الوقف الفوري لكافة العمليات المسلحة، ولكنها كانت أكثر اهتماماً بما أطلق عليه تنازل جميع المليشيات والعناصر المسلحة عن السلاح في إطار ترتيبات إقليمية وإجراءات بناء الثقة، وبجانب رؤيته لنزع السلاح، اتجه اجتماع القاهرة لفرض رقابة خارجية على “تزويد الأطراف غير الشرعية بالسلاح بجميع أنواعه”، وتعزيز المراقبة على كل المنافذ، ومساعدة الحكومة في ضبط الحدود.
وكان من الملاحظ أن اجتماع القاهرة توسع في تبني إجراءات للسيطرة على ورود السلاح لمكونات عملية “فجر ليييا”، لكن فاعلية هذه الإجراءات كانت قليلة الجدوى، وخصوصاً مع تزايد المناطق التي تدور فيها المعارك ووفرة السلاح لدى كل الأطراف في ليبيا، ولاسيما حصول أنصار “الكرامة” على أسلحة حديثة وأكثر تطوراً.
ولكنه على مستوى اجتماع الخرطوم، لم تكن مسألة تسليم السلاح أولوية لدى “دول الجوار”، ولكنها اهتمت بمطالبة كافة الأطراف بالوقف الفوري لإطلاق النار، فيما شكلت الخلفية الأمنية والعسكرية محور الاجتماع الرابع بالقاهرة، حيث ركزت كل البنود السبعة الواردة فيه على الإجراءات الخاصة بنزع السلاح والرقابة على تحركات من وصفهم بالتنظيمات غير الشرعية، وهو ما يكشف عن خلل في التناسق الداخلي للبيان الختامي ويشكك في إجراءات بناء الثقة التي وضعها لتسليم السلاح.
الحكومة الشرعية:
وقد شكل تعريف الحكومة الشرعية في ليبيا نقطة خلافية بين دول الجوار، فبينما اعترفت مصر صراحة بحكومة “طبرق”، فإن مواقف الدول الأخرى كانت أقرب للتحفظ عن إعلان موقف قانوني أو سياسي، وكان بعضها لا يرى مصلحة في الانحياز لأي من أطراف الصراع.
وقد اتجهت مواقف مصر في الاجتماعات الثلاثة الأخيرة للتركيز على استبعاد ما اعتبرته ميلشيات مسلحة من الحوار السياسي دون تعريف واضح للمكونات والديناميات المسلحة في ليبيا، ويبدو أن السياسة المصرية استندت إلى وجود برلمان طبرق كأساس لتصنيف مكونات “فجر ليبيا” كمليشيات غير شرعية، فيما تعتبر المسلحين الموالين لـ”خليفة حفتر” جزءاً من سلطة الدولة، وهو ما يعبر عن حالة من التحيز في ظل تفاقم النزاع القانوني حول شرعية استمرار مجلس النواب.
وقد انعقد اجتماع الخرطوم في ظل ظروف مختلفة، كان أهمها تزايد النزاع حول مصير مجلس النواب، وظهور المؤتمر الوطني كطرف في الجدل السياسي، وهنا تبدو أهمية ودلالات موقف دول الجوار في النظر للأطراف الليبية وتحديد مستقرّ الشرعية، وكان من الملاحظ أنه رغم توجيه الدعوة لحكومتي ليبيا للمشاركة في اجتماع الخرطوم، فإن الدعوة التي وجهت لوزير خارجية حكومة “طبرق” كانت بصفته الممثل الرسمي للدولة، وهو قرار يستند إلى موقف الأمم المتحدة المؤيد لاستمرار حكومة “الثني” باعتبارها منبثقة من مجلس النواب، ولكنه وفق بيان الخرطوم (بند 3 و4) وصفت دول الجوار حكومة “طرابلس” ومؤيديها بـ”أطراف وفعاليات ليبية أخرى”.
وهنا يمكن القول: إن موقف دول الجوار تجاه الأزمة الليبية يشهد نقلة نوعية في التناول الإقليمي للأزمة السياسية في ليبيا، وبشكل يقترب من الاعتراف بتعدد الأطراف المعنية بالحل السلمي في ليبيا وتنوع مطالبهم، وخصوصاً في النزاع متعدد الأبعاد؛ السياسية والقانونية والعسكرية، ويبدو هذا الأمر ضرورياً مع وجود آلية للتعامل مع الحكومة الليبية، وهو ما يعتبر تخلياً عن العوامل المغذية لاستمرار الصراع وتجاهل الواقع السياسي، ولعل أهمها التوسع في استبعاد كيانات سياسية تحت دعوى تصنيفها إرهابية وبشكل يزيد من معوقات الاستقرار ويحول دون التهدئة.
وبينما رفض اجتماع القاهرة مشاركة المسلحين غير الشرعيين (فجر ليبيا) في الحوار الوطني، حدث تطور في لغة الخطاب السياسي التي تبناها بيان “الخرطوم” تفيد التخلي عن الميول التدخلية والاستبعادية والانتقال لدور المجموعة كوسيط بين الأطراف الليبية، حيث حدث تغير في تعريف الأطراف التي يمكنها المشاركة في الحوار الوطني ليتيح فرصة لكل الأطراف التي تقبل بالحوار كخيار إستراتيجي في المفاوضات، وكان اهتمام البيان الختامي منصباً على تعزيز فرص الحوار وتهيئة البيئة الإقليمية لنجاح الجولة الثانية لمفاوضات “غدامس” (9 ديسمبر 2014م)، مع فتح فرصة لإعادة تشكيل وفود التفاوض لتستوعب التغيرات التي يشهدها الواقع السياسي في ليبيا.
وهناك جانب آخر يفسر تراجع أهمية المطالبة بالتدخل الدولي والتوجه نحو الحوار السياسي، حيث يوجد اختلاف في مواقف دول الجوار على كيفية معالجة الأزمة الليبية، فبينما كانت مصر تميل للتدخل العسكري، كانت الجزائر ثم تونس والسودان أكثر وضوحاً في رفض التدخل الخارجي، وأدى التباين في المواقف لحدوث انتقال نحو تفضيل الحلول السلمية وفتح المشاركة لكل الأطراف، ومن ثم، صارت فكرة التدخل الخارجي أقل قبولاً في الفترة الحالية، وهو ما انعكس في البيان الختامي لاجتماع الخرطوم، مما يزيد الاحتمالات بأن الأوضاع الحالية تتلاقى مع التوجهات الدولية نحو تعزيز الحل السياسي لأزمة ليبيا.