من مكتبي الاستشاري داخل مجمع المدارس، أتلقى دموع وآلام الكثير من الشباب والفتيات من مختلف الأعمار والمراحل السنية ومختلف المشكلات، فهذا الطالب ذو السبعة عشر ربيعاً دخل حزيناً، تعجبت أن يستجيب بهذه السرعة هؤلاء الشباب لفكرة أن يستشيروا من هم ليسوا من أصدقائهم.
فاستقبلته بترحاب يريح نفسه ويطمئن قلبه لما أقدم عليه.
قلت له: أحيِّيك على وعيك.
تعجب قائلاً: وكيف عرفت ذلك؟
قلت: ما يلجأ شاب أو فتاة في مثل سِنّك إلى متخصص في مجالنا إلا لنضج ووعي بل إدراك واسع ونفس تواقة.
قال: وقد يكون العكس؛ اليأس والإحباط بل الاكتئاب.
قلت: لو كان ذلك لذهبت لصديق، أو ألهيت نفسك بأي شيء مما يقوم به الشباب وممن هم في عمرك، أو الانقلاب على النفس بإعلان حالة الاكتئاب لعجزها عن الضغط وعدم القدرة على حل مشكلاتها.
قال: قد أكون مررت بذلك كله.
قلت: وإلامَ وصلت؟
قال: أن ألجأ بعد الله إليكِ كمتخصص واستشاري.
قلت: لست هنا كمتخصص فقط، بل داعم نفسي لكل أولادي، كأمٍّ بلا سلطة، وصديق بخبرة.
قال: أهم شيء «بلا سلطة» تلك، فإن لم يكن هناك راحة فلن تبوح النفس بما داخلها.
قلت: وما الذي بداخل نفسك؟
قال: الكثير والكثير جداً.
قلت: ابدأ من حيث تريد.
قال: الكلام يتصارع ولا أعرف من أين أبدأ؟ فساعديني.
قلت: مشكلتك مع من؟
قال: الجميع.
قلت: بمن نبدأ؟
قال: أبي.
قلت: ما به؟
قال: به الكثير والكثير.
قلت: منذ متى وأنت تحمل لأبيك هذه المشاعر؟
قال: وأنا صغير.
قلت: أنت أكبر إخوتك؟
قال: وهذه هي أكبر مشكلاتي.
قلت: لِمَ؟
قال: لأنه يحملني مسؤولية كل شيء!
قلت: ماذا تعني بكل شيء؟!
قال: أي خطأ في البيت أنا سببه.. أي خطأ من إخواني أيضاً أنا سببه.. أي قصور في الدراسة حتماً أنا السبب.. أبي لا يرحم، لا يعذر، ولا يسمعني.. أكرهه.. أكرهه!
قاطعته قائلة: هوِّن عليك، هوِّن عليك، وأحضرت له كوب ماء، وقلت: حدد لي في نقاط بسيطة مشكلتك مع أبيك.
قال: لا أعرف.. مشتت الذهن.
قلت: ما الذي حدث بينك وبينه اليوم جعلك تأتي إليِّ؟
قال: في الصباح كالعادة يوقظنا بعد وابل من الشتم والسب لعدم استيقاظنا في الصباح بسهولة، وعدم تنظيم أغراضنا، وعدم انتظامنا في مواعيد نوم معقولة.
قلت: وما الجديد في فعله اليوم؟
قال: أشعر أنني تحت المجهر، عدسة مكبَّرة أيضاً تضخِّم كل صغيرة، وترصد كل ناقص، ولا ترى أي إنجاز، ترى كل نقيصة ولا تراعي أي عذر، ولا تتلمس إلا السيئ، ولا ترى حسناً أبداً، فأنا الابن العاق، والطالب الفاشل، والشاب الضائع.. هكذا هي صورتي التي شكَّلها أبي ويصر عليها.
قلت: أين والدتك من هذا كله؟
قال: هذه مشكلة أو نقطة أخرى؛ فأمي جربت أن تتصدى له لكنها فضلت استقرار علاقتها بأبي، ووجود أسرة متكاملة الأركان عن الوقوف في صفي ضده؛ فتتفكك الأسرة؛ لأنهما قد يتشاجران بسببي، وتصبح الحياة جحيماً.
قلت: هل أنت فقط من يتم التعامل معه هكذا؟
صمت قليلاً مفكراً قائلاً: لا أدري، قد يكون أنا أكثر مستوى خلافاً مع أبي عن أخواتي البنات.
قلت: وماذا عن علاقاته الخارجية والأقارب وأصدقاء العمل؟
قال: أبي معروف عنه سرعة الانفعال والعصبية، لكنه رجل منصف.
قلت: وماذا بعد؟
استطرد قائلاً: إنسان حازم جداً، ومثاليّ، فهو لا يفكر بطريقتنا نحن الشباب، الفاصل الزمني الفكري – ليس العمري – بيننا كبير، وكبير جداً.
قلت: اذكر مثالاً.
قال: أبي يضيق علينا أي تطور في الحياة، حتى طريقة تسريحة شعري ينتقدها، أجهزة الهاتف والتلفاز.. كل شيء عليه قيود، يريد يومنا مبرمجاً، بل حياتنا كلها على حسب ما يهوى ويفكر.
قلت: سوف أسألك وتريّث في الإجابة: هل أبوك لا يحبك؟
قال: لا، ثم رجع قائلاً: لا أدري، لا أدري.
قلت: هل تستطيع أن تذكر لي بعض محاسن والدك؟
قال: هو معطاء وكريم وحنون.
قلت: حنون؟!
قال: نعم هو ينفعل عليَّ، لكنه في الأصل طيب معنا بعد أن يهدأ من عصبيته، وسهل أن تجد مدخلاً للكلام معه بعد ذلك، بالإضافة إلى أنه يؤسس لحياتنا، ويخطط للمستقبل، ولكن بطريقة شديدة، يريد كل شيء كما خطط له، ويريده هو بالشكل الذي يتوقعه.
قلت: دع هذا الآن وأكمل ما كنت تذكره عنه من محاسن.
قال: هو مع أخواتي البنات هادئ نوعاً ما، يوفر لنا حياة متكاملة مستقرة مادياً ومريحة إلى حد كبير.
قلت: ما الذي تتوقعه أن يريده والدك منك؟
تلعثم قائلاً: صلاة بدقة، ومذاكرة مستمرة، استقامة دائمة؛ أي شباب بطعم الشيب.
قلت: وما الشباب بطعم الشيب؟
قال: يعني حريتنا كشباب في بعض التصرفات الخاصة في جيلنا الحالي لا تعجبه أبداً، يريدنا شباباً سناً، لكن عقلاً بعمره وتصرفات بخبرته.
قلت: هل يريد لك شراً أو سوءاً؟
قال: بالتأكيد لا.
قلت: لو تعاملت مع أبيك بالنية لارتحت كثيراً.
قال: كيف؟
قلت: أي حينما يصدر منه تصرف يضايقك ارجع لنفسك سريعاً؛ ما نيته من هذا؟ أكيد ليس شراً.
قال: بل تضييق عليَّ.
قلت: في رأيك؛ لماذا يضيِّق عليك؟
قال: هكذا هو.
قلت: لا، هناك أسباب، وأكيد أنت تعرفها.
قال: يخاف عليَّ، ولكنني لست صغيراً، فليدعني وتفكيري ونفسي أكوِّن خبرتي، وأعيش الحياة كما أراها لا كما يراها هو.
قلت: وإن كنت لا أبرر له ما يفعله، لكني أشرح لك لماذا يفعله؛ هو يريد ألا تعيش نفس تجاربه الفاشلة مثلاً، ويريد أن يجنبك الخسائر، ويوفر عليك عمراً ومالاً ووقتاً، ويقف بجانبك ليسندك لا ليتحكم فيك كما يظهر لك، كذلك هو يعتبر تمردك غباء أو استهتاراً أو استغناء.
قال: بالفعل، هو ينعتنا أحياناً ببعض منها، وفي ساعات الرضا تخرج منه مثل هذه المبررات.
قلت: وهل ساعات الرضا تدوم بينكم؟
قال: لا.. ليتها.. كم أتمنى منه أن يجالسنا بهذا الرضا وهذا الحنو والهدوء دون توجيه أو أوامر أو نهي، كصديق يسمعني وأسمعه، كم من شعور الآن في بعض الأزمات يحتاج خبرة كما ذكرت بدون تسلط أو إجبار، ونريد فقط ممن يسمعنا أن يحنو علينا يصبر علينا دون توبيخ أو إهانة أو سخرية إذا أخطأنا.
قلت: لقد أوجزت في استغاثة نرسلها للآباء: «أريد آذاناً تسمعني.. أريد نفساً تصبر على خطئي».