للقدس مكانة خاصة في وجدان كل مسلم، فلقد حماها الله من النسيان عندما جعلها آية من كتابه، وحصَّنها من الضّياع عندما نفخ روح الرباط في أهلها وزرع في قلوبهم العزيمة على الجهاد لتحريرها، فهم ثابتون على ذلك حتى لو حاصرهم سلطان المؤامرات أو استطاعت مخالب الغدر من خدش كرامة الأمة وبث سموم الخيانة بين أظهرها؛ “لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك”.
كلما غابت فلسطين عن المشهد كانت دماء شهدائها الشعلة التي توقد فتيل التفاعل الشعبي العربي والإسلامي وتعيدها إلى الصدارة مرة أخرى، ولكن سرعان ما تنطفئ الشّعلة مع رياح الغدر التي تصدر من المؤتمرات والقرارات الأممية والتي قد تعطل آلة القتل الصهيونية مؤقتاً دون أن تكبح سرعة المخططات الاستيطانية والتهويدية المستمرة في كل يوم وكل ساعة، وأمام هذا المشهد فإننا نحتاج لمصارحة أنفسنا بوجود فجوة كبيرة بين التحديات الخطيرة التي تواجهها القضية الفلسطينية اليوم والتفاعل الشعبي الذي يكاد ينحصر في بعض المظاهرات التي تُنظَّم كردّ فعل على انفجار الأحداث في فلسطين، وهذا الوضع طبيعي جداً في ظل تأزم الواقع السياسي وتردي الوسط الاجتماعي في البلدان العربية كنتيجة لتوغل الاستبداد السياسي واستفحال الفساد في شتى المجالات.
لا يمكن عزل فلسطين عن واقع الأمة، فالعلاقة بينهما طردية؛ إذ إن مصير فلسطين مرتبط بمصير الأمة ومستقبلها، وهذا ما يؤكده التاريخ والواقع، حيث لم يُخفِ مؤسسو الكيان الصهيوني أطماعهم التوسعية بتجاوز الحيز الجغرافي لفلسطين، وهو ما حصل بالفعل في حرب عام 1967م، كما لا يختلف العقلاء على أن حالة الضعف التي تمر بها الأمة اليوم شكلت دافعاً قوياً للكيان الصهيوني ليوسّع العمليات الاستيطانية، ويسارع الخطى لفرض واقع جديد في المسجد الأقصى، يبدأ بالتقسيم الزماني ثم المكاني، ثم إقامة المعبد مكان المسجد الأقصى المبارك، ورهانهم في ذلك على عواصف الصراعات التي تعصف بالمجتمعات العربية والتي أعمت الأعين عن السياسات “الإسرائيلية” الخطيرة داخل القدس.
لذلك لا يكفي أن نتحدث عن العدو ومؤامراته، بل من الواجب علينا الاعتراف أن العدو استفاد من حالة الضَّعف التي تعيشها الأمة، فكماشة الاستبداد تمنعها من التحرك، وسجن الاستعباد يحرمها من استخدام طاقاتها بالشكل الفعال، وفي هذا المعنى يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: “إنه لا شيء ينال من مناعة البلاد، وينتقص من قدرتها على المقاومة الرائعة، كفساد النفوس والأوضاع، وضياع مظاهر العدالة، واختلال موازين الاقتصاد، وانقسام الشعب إلى طوائف، أكثرها مُضيع منهوك، وأقلها يمرح في نعيم الملوك”، وهذا كله من مخلّفات الاستبداد، حتى أدى فصل خطاب تحرير فلسطين عن واقع الأمة السياسي إلى شيوع تجارة الوهم عبر تسويق تحرير لا تضحية فيه و جهاد لا بذل فيه.
هذا المشهد ينطبق على بني إسرائيل الذين سبق وأن أَوكَل الله لهم مهمة دخول فلسطين حيث جاء في القرآن على لسان موسى عليه السلام: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ {21}) (المائدة)، فبعدما نجى الله بني إسرائيل من فرعون وجنوده، وأصبحوا على أعتاب الأرض المقدسة، كان من المفروض أن تكون المعجزة التي نجاهم الله بها دافعاً لهم للامتثال لأمر نبيهم، ولكنهم رفضوا أمر نبيهم وقالوا له: (يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ {22}) (المائدة)، خضعوا لموازين القوى وركنوا للواقع وتوجسوا من المواجهة، وهذا طبيعي، فلقد عاش بنو إسرائيل تحت سلطة مستبدة شعارها: (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ {29}) (غافر)، ألغت هويتهم وثبطت عزيمتهم وغرست الانهزامية في قلوبهم ولم يتحرروا منها إلا بفعل معجزة إلهية، لذلك مَنَّوا أنفسهم بنصر رخيص لا تُبذل في سبيله الأرواح، ولا تخضّب طريقه بالدماء، فقالوا بكل وقاحة لنبيهم: (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ {24}) (المائدة)، ومن هنا نجد أنّ للاستبداد انعكاساته الخطيرة على عملية التحرير حيث يغرس الانهزامية من خلال التركيز على المعايير المادية، ويولد التبعية لفقدان الجرأة والشجاعة على المواجهة، ويؤكد هذا المعنى ما قاله الكواكبي: “ومن الأمور المشاهدة أن الأمم التي تقع تحت أسر أمة تغايرها في السيماء، لا يمضي عليها أجيال إلا وتفشو فيها سيماء الآسرين”.
الفاصل بيننا وبين فلسطين ليس فاصلاً جغرافياً، بل هو فاصل نفسي إذا تغلبنا عليه أصبح التحرير قاب قوسين أو أدنى، يقول علي عزت بيجوفيتش: “عندما تكون في السجن تكون لك أمنية واحدة: الحرية، وعندما تمرض في السجن لا تفكر في الحرية وإنما بالصحة، الصحة إذاً تسبق الحرية”، والأمة اليوم قابعة في سجن الاستبداد وللوصول للحرية المنشودة عليها بالتعافي من الأمراض التي أكلت جسدها ودمّرت مناعته أمام الانهزامية والتردد والخوف، والواقع يؤكد ذلك، حيث كان شعار تحرير فلسطين حاضراً في كل المظاهرات التي خرجت ضد الأنظمة المستبدة؛ وبناء عليه كلما كسرت الشعوب حاجز الخوف أصبحت فلسطين أقرب للتحرير، وبعض الصبر كاف لإدراك ذلك؛ “لكي ترى الحرارة تنتقل من جسم ساخن إلى آخر بارد، ليس من الضروري أن تكون لديك الرؤية الحادة أو ذكاء وبراعة شيطان ماكسويل، يكفيك أن تتحلى ببعض الصبر“.
(*) المكتب الثقافي لرابطة شباب لأجل القدس العالمية.