في نهاية يوم طويل وشاق؛ أعلنت اللجنة العليا للانتخابات في تركيا تمرير الاستفتاء الشعبي على التعديل الدستوري الذي يتضمن تحويل نظام الحكم في البلاد إلى رئاسي، وفق النتائج غير النهائية وغير الرسمية.
نتائج وأرقام
فقد أعلنت وكالة “الأناضول” للأنباء أن نسبة تأييد التعديل الدستوري بلغت 51.4%، ونسبة الرفض 48.6%، بعد فرز كامل صناديق الاقتراع، حيث وافق 25 مليوناً و154 ألفاً و257 ناخباً على التعديل، وصوت ضده 23 مليوناً و775 ألفاً و294 ناخباً، بفارق مليون و378 ألفاً و963 صوتاً.
وقد بلغت نسبة المشاركة في الاستفتاء داخل تركيا 85.46% وهي نسبة مرتفعة ومتوقعة في آنٍ معاً، إضافة إلى نسبة 46.95% لمشاركة أتراك الخارج، وهو رقم قياسي على صعيده.
إذ تمتاز مختلف الاستحقاقات الانتخابية التركية بنسبة مشاركة مرتفعة – لا سيما بعد انقلاب 1980م – بسبب ثقة المواطن في نزاهة الانتخابات؛ وبالتالي أهمية صوته ومساهمته في بلورة نتيجة الانتخابات من جهة، وبسبب حالة الاستقطاب من جهة ثانية، وكرد فعل على الانقلابات العسكرية التي تتدخل في العملية السياسية لتعيد تشكيلها من جهة ثالثة.
بيد أن هذا الاستفتاء تميز بخاصيتين عما سبقه من استفتاءات فضلاً عن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وهما أهميته الاستثنائية بسبب تغييره لنظام الحكم في البلاد، وحالة الاستقطاب وحدة الخطاب خلال الحملة الانتخابية في الداخل مع المعارضة وفي الخارج مع الاتحاد الأوروبي، والتي فعّلت سؤال الهوية وشعور الاستهداف والمشاعر الأيديولوجية و/ أو القومية.
سُجلت أعلى نسبة تأييد في مدينة بايبورت على البحر الأسود بنسبة 81.79% وأعلى نسبة رفض في تونجالي مسقط رأس زعيم المعارضة بنسبة 80.04%، في حين رفضت عدة مدن كبيرة ومهمة التعديل بنسب متفاوتة في مقدمتها إسطنبول (%51.4) وأنقرة (%51.2) وإزمير (%68.8) وديار بكر (%61.6).
وستعلن لجنة الانتخابات العليا النتيجة النهائية والرسمية للاستفتاء الشعبي بعد البت في الطعون المقدمة لها في مدة أقصاها 12 يوماً، حسبما ينص عليه قانون الانتخاب وصرح به رئيس اللجنة.
استخلاصات ودلالات
يحسب للشعب التركي وأحزابه وقواه السياسية أنهم ارتضوا صناديق الاقتراع مرجعية لحل الخلاف القائم بينهم على نظام البلاد، وتحسب لهم أيضاً نسبة المشاركة المرتفعة، وشفافية العملية الانتخابية وخلوها من أي أحداث أمنية كبيرة، فضلاً عن القدرة على تنظيم حدث بهذا الحجم وبعدد الناخبين الضخم وانتشارهم الجغرافي، وفرز الأصوات وإعلانها في أقل من 14 ساعة.
يمكن اعتبار النتيجة إنجازاً لرجب طيب أردوغان والعدالة والتنمية، وفوزاً جديداً يضاف لسجلهما الانتخابي، لا سيما أنه يرتبط بقرار مصيري وتاريخي يغير نظام الحكم في تركيا (والشعوب تميل لرفض التغيير)، ولعل ذلك ما قصده أردوغان في كلمته حين قال: إنها المرة الأولى في تاريخ تركيا التي يتغير فيها النظام بإرادة مدنية شعبية، عبر صناديق الاقتراع وليس بالانقلابات.
بيد أن الفارق البسيط بين نسبتيْ التأييد والرفض يحمل دلالة لا تقل أهمية عن معنى الفوز بالاستفتاء على تعديل دستوري ونظام رئاسي كانا يحتاجان لتوافق مجتمعي وساسي أوسع، وهي رسالة عتب أو غضب أو تحفّظ، تذكر بتراجع نسبة التصويت له في انتخابات يونيو 2015م البرلمانية حين فقد أغلبيته البرلمانية بعدما جعل التحول للنظام الرئاسي شعار حملته الانتخابية.
الدلالة الثالثة تتعلق بالنتيجة ومقارنتها بنسبة التصويت لشريكيْ المشروع حزبيْ العدالة والتنمية والحركة القومية، إذ يملك الطرفان وفق آخر انتخابات برلمانية أكثر من 60% من أصوات الشعب ونواب البرلمان (49.5 و11.9 على التوالي)، في مقابل التقارب الكبير بين النتيجة ونسبة فوز أردوغان في انتخابات 2014م الرئاسية (52%).
ولعله ليس من المبالغة إن قلنا: إن معظم الفضل في النتيجة يعود لشخص أردوغان وقيادته للحملة الانتخابية، فيما أوصل قسم من أعضاء وأنصار العدالة والتنمية رسالة لقيادتهم مفادها تحفظهم و/ أو رفضهم لمواد التعديل الدستوري، رغم افتراض أنهم مقتنعون بضرورة التغيير في تركيا وحاجة البلاد لنظام رئاسي قوي.
ويبدو – من خلال النتائج التفصيلية على مستوى المحافظات – أن الأغلبية العظمى من أنصار حزب الحركة القومية قد صوتوا ضد التعديل الدستوري؛ بما يعني صعوبة توقع تحالف راسخ وطويل الأمد بين العدالة والتنمية والحركة القومية، وبما يعني أيضاً أن زعيم القوميين دولت بهجلي خرج كأكبر الخاسرين من الاقتراع باعتباره فشل في إقناع أتباعه بوجهة نظره؛ الأمر الذي قد يضاعف معاناته داخل الحزب ويفتح باب مستقبله على سيناريوهات مفتوحة.
في المقابل، بدا من نتائج مناطق الأغلبية الكردية في جنوبي وجنوب شرقي البلاد أن الأصوات الكردية هي من رجح كفة “نعم” في الاقتراع، ويبدو أن ذلك أتى بعد عدة إشارات أرسلها أردوغان وبعض مستشاريه – في الأيام القليلة قبل الاستفتاء – بشأن مستقبل القضية الكردية، فضلاً عن استياء الحاضنة الكردية من حزب العمال الكردستاني؛ مما قد يشير إلى انفراجة يمكن توقعها على المدى المتوسط فيما يتعلق بأكراد تركيا.
ومن أهم دلالات النتيجة رجحانُ كفة الرفض في أهم أربع مدن في تركيا، وهي إسطنبول بكل رمزيتها إذ تسمى “الخزان الانتخابي” و”تركيا المصغرة” لاحتوائها على خُمْس الناخبين، وتكونها من نفس فسيفساء التنوع التركية، والعاصمة الإدارية أنقرة التي طالما احتدم فيها التنافس بين العدالة والتنمية والشعب الجمهوري، وإزمير معقل الأخير وأهم قلاع التيار العلماني في تركيا، وديار بكر كبرى المدن ذات الأغلبية الكردية ومعقل حزب الشعوب الديمقراطي.
ولعل هذه الإشارة – التي لا تؤثر على النتيجة وشرعيتها – ذات دلالة معنوية بالغة ينبغي على العدالة والتنمية تلقفها والتعامل معها.
في إسطنبول أيضاً وفي أحياء تعتبر معاقل للعدالة والتنمية مثل الفاتح وأيوب وأسكودار وغيرها؛ رجح الرفض أو تقارب الطرفان، بسبب تحفظ نسبة غير بسيطة من أنصار الحزب على بعض المواد أو عدم عمل ماكينته الانتخابية (لا سيما الشباب والنساء) كما يجب، أو عدم مرور مواد التعديل الدستوري بنقاش مجتمعي معمّق قبل عرضها على البرلمان، وهي دلالات سيتوقف أمامها العدالة والتنمية طويلاً بلا شك.
خريطة المستقبل
في “خطاب الشرفة” التقليدي الذي ألقاه رئيس الحكومة والعدالة والتنمية بن علي يلدرم، وفي كلمة الرئيس أردوغان بعد إعلان النتيجة، كان هناك تأكيد على أهمية النظام الرئاسي، وشكر للشعب على ممارسته لحقه الديمقراطي بطريقة حضارية، وتهدئة لنبرة الخطاب الذي ساد الحملات الانتخابية، وتقديم خطاب نصر منضبط يعتبر أن “كل تركيا قد فازت” لا فريق بعينه.
بعد إعلان اللجنة العليا للانتخابات النتيجةَ الرسمية النهائية – والتي لا يتوقع أن تختلف كثيراً عما أعلن بشكل غير رسمي – ستوضع مادتان من المواد الـ18 موضع التنفيذ، إحداهما تتعلق بانتخابات “هيئة القضاة والمدعين العامين” بعد شهر من إعلان النتيجة، والثانية – وهي الأهم – تنص على عودة الرئيس لعضوية حزبه.
ولذلك من المتوقع أن يدعو العدالة والتنمية فور إعلان النتيجة رئيسَه ومؤسسَه إلى العودة لعضويته أولاً ثم لرئاسته ثانياً بعد مؤتمر استثنائي يدعو له، ليقود الحزبَ من جديد نحو الانتخابات البرلمانية والرئاسية المتزامنة في 3 نوفمبر 2019م.
تمتد من الآن وحتى ذلك التاريخ فترة انتقالية تتضمن إصدار البرلمان التركي قوانين “مواءمة” تضمن الانتقال التدريجي والسلس من النظام البرلماني إلى الرئاسي، بينما لن تسري المواد الـ16 الأخرى إلا بعد انتخابات 2019م، وهو ما حرص أردوغان على تأكيده في كلمته خصوصاً فيما يتعلق بصلاحيات الرئيس.
وإذا ما استقبل أردوغان والعدالة والتنمية الرسائل المتضمنة في نتائج الاستفتاء الأهم في تاريخ تركيا، فيمكن توقع مراجعات ونقاشات عميقة داخل الحزب وفي المجتمع لشرح النظام الرئاسي ومواد التعديل الدستوري مرات أخرى إضافية، فضلاً عن احتمال إعادة هيكلة قيادة الحزب في المؤتمر الاستثنائي المذكور، بل وربما إجراء تعديل وزاري طفيف على هامش الاستفتاء وعودة أردوغان لرئاسة الحزب.
الأهم هو ما سيتركه الاستفتاء ونتيجته من آثار على المشهد السياسي الداخلي في تركيا، حيث ستتراجع أهمية الأحزاب وثقلها في ميزان السياسة الداخلية لصالح منصب الرئاسة، وهو ما قد يغير الثقافة والممارسة الديمقراطية في البلاد وشكل الخريطة السياسية فيها بشكل كبير.
أخيراً، يبقى التحدي الأهم الذي تنتظره تركيا هو ما ستؤدي إليه الممارسة العملية وتطبيق النظام الرئاسي ومواده، وما سيكشفه ذلك مما يُحتاج إلى استدراكه من نقائص وثغرات ومنسيات، أو خطوات تستهدف طمأنة الرأي العام والمعارضة على مستقبل الحياة السياسية في تركيا والتوازن بين مختلف مؤسساتها، وهو عامل أساسي يضاف لأهمية اضطلاع مؤسسات المجتمع المدني بدورها الرقابي لنجاح وإنجاح النظام الرئاسي فيها على المدى البعيد.
المصدر: “الجزيرة نت”.