حرب حقيقية تلك التي تدور بين الاحتلال “الإسرائيلي” والمقاومة الفلسطينية في مجال العملاء، حيث تسعى “إسرائيل” بكل الطرق إلى جمع المعلومات عن الفلسطينيين، لمطاردة واغتيال قادة ورجال المقاومة عبر استقطاب عملاء في الداخل الفلسطيني، ويعتمد جهازا “الموساد” والأمن الداخلي (الشاباك) على عملاء فلسطينيين يتم تجنيدهم بأشكال مختلفة تتنوع بين استغلال الظروف المادية والابتزاز الأخلاقي، فيما تحرص المقاومة على محاصرة الظاهرة والعمل على استئصالها.
وقد شكل اغتيال الشهيد مازن فقها علامة مميزة في مسار حرب العملاء بين غزة والاحتلال “الإسرائيلي”، إذ اعتبر خطوة ستضيق على العملاء مجال اشتغالهم داخل القطاع، حيث رفعت جاهزية عناصر المقاومة ويقظتهم، وعملت على تكثيف العمل والبحث للاطلاع على مكامن الخلل والتعامل معها بصرامة.
وبحسب موقع “المجد” الأمني الفلسطيني، فإن عملية اغتيال الشهيد فقها دفعت إلى انتهاج أسلوب جديد في التعامل مع العملاء.
وأعلنت “حماس” في أبريل 2017م عزمها اتخاذ إجراءات مشددة بحق من “يتخابر” مع “إسرائيل”، وذلك بعد أن اغتال مجهولون مازن فقها، القيادي في “كتائب عز الدين القسام” (الجناح العسكري للحركة)، على أيدي مجهولين بأربع رصاصات قرب منزله في غزة يوم 24 مارس 2017م.
ومع تعدد العوامل التي تجعل الشخص يقبل خيانة وطنه وشعبه يقف الوازع الديني عائقاً أمام ذلك كما يؤكد الرئيس السابق لـ”الشاباك” يعقوب بيري، حيث قال في تصريح له: إن الوازع الديني لدى الشبان الفلسطينيين يعد أحد أبرز العقبات التي تحول دون تجنيد العملاء.
أساليب الاستقطاب
طور الاحتلال أساليبه في استقطاب العملاء المحتملين وتنوعت أساليبه بين الإسقاط الأخلاقي والمادي واستغلال ظروف الحصار لفرض شروطه على الراغبين في الخروج للعمل أو العلاج.
ولدى “الموساد” و”الشاباك” وشعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) مراكز أبحاث متخصصة لها دراسات متطورة في كيفية إسقاط العملاء بمختلف الطرق الممكنة.
وفي حالة غزة يستغل الاحتلال حالة الانقسام الفلسطيني لتقوية مشاعر الرغبة في الانتقام من الآخر، خاصة بعد الحسم العسكري لـ”حماس” على القطاع.
كما يتم استغلال حاجة المحاصرين في غزة للعلاج لمساومة المرضى على التجسس مقابل العلاج، وتبقى حالة الطالب الفلسطيني أحمد حسن شبير أبرز مثال على ذلك.
الطفل الفلسطيني أحمد كان يعاني من مشكلات في القلب منذ ولادته، وأجرى عدة عمليات في مستشفيات “إسرائيلية”، وكانت فترة علاجه تسير بوتيرة طبيعية إلى حدود عام 2015م عندما بدأت مماطلة الاحتلال في السماح له بدخول الأراضي المحتلة لتلقي العلاج، حيث عرض عليه ضابط مخابرات التعاون معهم بجلب معطيات عن عدد من جيرانه ومعارفه مقابل السماح له بالعلاج، وعندما رفض أحمد وقال لهم: أفضّل الموت على أن أوافق على طلبكم؛ طردوه، وقالوا له: “ارجع إلى غزة وخلي أطباءها يعالجونك”، ولم يتوقف الابتزاز عند أحمد فقط، بل تعداه لابتزاز أمه بغرض الضغط عليه.
ولقي أحمد حسن شبير ربه في 14 يناير 2017م وعمره 17 عاماً بعدما حرمه الاحتلال من العلاج، وكانت كل أمنيته أن يعيش لستة أشهر أخرى حتى ينال شهادة التوجيهي.
وعادة ما تلجأ “إسرائيل” إلى أساليب ملتوية لجمع المعلومات عن شباب غزة والمقاومة، ففي أواخر مارس 2017م كشف أمن غزة أن مؤسسة ادعت أنها تعمل في مجال حقوق الإنسان بالأردن، وأنها تجري دراسة حول حقوق الإنسان في غزة، وكانت الفتاة المتصلة تطلب من الأشخاص الذين تتصل بهم معلومات عن أعمارهم وحالاتهم الاجتماعية وتطرح أسئلة أمنية كالانتماء السياسي.
ويبقى سلاح الإسقاط الجنسي السلاح المفضل للاحتلال، وقد ذكر موقع “المجد” الأمني الفلسطيني أن العنصر النسائي كان سبباً رئيساً في إسقاط كثير من الشباب بشباك المخابرات “الإسرائيلية”.
وبحسب الموقع نفسه، فإن المرأة العميلة تقوم باستدراج الشخص المستهدف، ثم يصور في أوضاع غير لائقة، وتبدأ معه رحلة المساومة.
أيضاً، سبق لعشرات الشبان الفلسطينيين أن تقدموا بشكاوى تفيد بأن ضباطاً من جهاز “الشاباك” يقومون بالاتصال بهواتفهم الجوالة ويعرضون عليهم “تقديم معلومات عن المقاومة الفلسطينية مقابل الحصول على مكاسب مالية وتسهيلات في مجال السفر والعلاج”، إضافة إلى إرسال رسائل لعدد كبير من الشبان الفلسطينيين على بريدهم الإلكتروني.
شهادات
في إطار حملتها ضد العملاء الذين يتعاونون مع “إسرائيل” كشفت “حماس” عن اعترافات لعملاء تعاونوا مع “إسرائيل” وتسببوا في قتل مسؤولين كبار في الفصائل الفلسطينية، وآخرين عملوا على بث إشاعات بإيعاز من جهاز “الشاباك”.
وفي يونيو 2012م نشرت وزارة الداخلية والأمن الوطني في حكومة غزة مقطع فيديو بثته قناة “الأقصى”، التابعة لحركة “حماس”، ومواقع حكومية تضمن اعترافات لعدد من العملاء، أبرزهم شاركوا في تعقب قيادات الصف الأول في حركة “حماس” الذين اغتيلوا فيما بعد، ومنهم عبدالعزيز الرنتيسي، وإسماعيل أبو شنب، وإبراهيم المقادمة، وسعيد صيام.
واعترف أحد الذين عملوا في فصيل فلسطيني مقاوم – لم يذكر اسمه – أنه كشف لـ”إسرائيل” البنية التنظيمية للجان المقاومة الشعبية التي اغتيل في وقت متلاحق قادتها البارزون، على رأسهم أمينها العام أبو عوض النيرب، وقائدها العسكري عماد حمادة.
وفي اعتراف آخر يروي محمود الذي أدين بالتعاون مع الاحتلال كيف تم فيه تجنيده من خلال استغلال ضابط الاستخبارات حاجته إلى المال لإتمام زواجه، ويقول: كنت أمشي بالقرب من الحدود مع الاحتلال في شمال القطاع بالقرب من بيتي فضبطتني قوة خاصة “إسرائيلية” للتحقيق، ويضيف: سألني ضابط الاستخبارات عن سبب وجودي بالقرب من الحدود فأخبرته أني مستاء لأن زواجي بعد شهر ولا أملك المال، فقال لي: اعمل معنا ونحن سنعطيك المال.
وبحسب محمود، فقد طلب منه ضابط الاستخبارات مراقبة اثنين من جيرانه يعملان في “كتائب القسام”، وأنه استمر في ذلك الشغل قرابة عام، ثم اعتقلته “حماس” عام 2008م.
كما نشرت وزارة الداخلية بغزة في سبتمبر 2014م معلومات عن عميل يدعى “ح. م” وعمره 59 عاماً، وكانت مهنته عقيداً في أحد الأجهزة الأمنية.
وأسندت لهذا العميل عدة مهام، منها تحديد منازل قيادات وبعض العناصر في المقاومة الفلسطينية، والانخراط في العمل التنظيمي لأحد الفصائل وتولي منصب قيادي، ورصد تحركات عدد من القياديين تم اغتيالهم مطلع انتفاضة الأقصى.
وقد تم القبض على العميل “ح. م” وفي حوزته جهاز اتصال مع العدو، وقدم إلى المحاكمة بعد اعترافه، وحكم عليه بالإعدام رمياً بالرصاص وتم تنفيذ الحكم.
استئصال العملاء
وتصطدم الاستخبارات “الإسرائيلية” في محاولاتها لتجنيد الفلسطينيين بجهود الفصائل الفلسطينية – خاصة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) – للتصدي لظاهرة التخابر مع العدو التي اشتدت خلال العدوان “الإسرائيلي” على القطاع عام 2014م.
فقد أطلقت “حماس” حملة وطنية لمواجهة التخابر في مايو 2010م قدمت خلالها عرضاً بالعفو وفتحت باب التوبة أمام عملاء “إسرائيل” الذين يسلمون أنفسهم لها، وأعلن في حينه أن عدداً من العملاء سلموا أنفسهم للحكومة في غزة، وتواصلت العملية عام 2013م.
كما تقوم سلطات غزة بردع العملاء عن طريق تنفيذ حكم الإعدام بحق عدد منهم بعد ثبوت تورطهم في العمالة لـ”إسرائيل”، فيما أعلن عن مرحلة جديدة في محاربة “المشبوهين والعملاء” أطلق عليها اسم “خنق الرقاب”.
مع العلم أن القانون الفلسطيني يقضي بعقوبة الإعدام على المدانين بالتعاون والقتل وتهريب المخدرات.
وفي بداية أبريل 2017م نقل موقع “المجد” الأمني عن مسؤول أمني بارز قوله: إن السلطات الأمنية فتحت الباب مجدداً أمام توبة العملاء، حيث تعهدت الأجهزة الأمنية بتخفيف العقوبة على العميل الذي يسلم نفسه، وتوعدت الذين قرروا الاستمرار في العمالة بأشد العقوبات.
وبدأت سلطات غزة إجراءات أمنية مكثفة على أرض غزة بعد اغتيال الشهيد مازن فقها لملاحقة العملاء، حيث وضعت الحواجز على الأرض، ونشرت عناصرها علناً وخفية، وبدأت حملة شرسة لملاحقة العملاء ضيقت الخناق عليهم.