بعد الثورة انقسم الجمعيون (الحزب الحاكم قبل الثورة) بين متحجر على ما شب عليه، ومتفهم للوضع ومتكيف معه وظل اليسار المتحفي على حاله، استئصالياً انتهازياً سمساراً بامتياز، وظلت كفة الأحزاب المخضرمة الأخرى تميل مع الريح، وهناك تيار شبه “ديمقراطي” متناسق مع أهداف الثورة وإن قدم تنازلات أكبر من تلك التي قدمتها النهضة على المستويين الثقافي والسياسي، فمحمد عبو الذي يقود “التيار الديمقراطي” جعل يوم السبت عطلة رسمية عندما كان وزيراً للوظيفة العمومية إبان حكم الترويكة؛ مما عطل مصالح كثير من المواطنين، فضلاً عن التنسيق الآني مع أحزاب ترغب في تأخير الانتخابات البلدية لانعدام حظوظها في الفوز فيها، ويجمع كثير من التيارات المتنافرة ما يعرف في تونس بـ”النمط المجتمعي” الذي جعل سامية عبو ترفض دستور ما أسمته بدستور الخوانجية، وجعل “ديمقراطي” مثل نجيب الشابي يتحدث عن النمط ويرفض أي منصب في حكومة الجبالي ثم علي العريض بين عامي 2012 و2014م.
النمط المجتمعي: الخلفيات والأدوار
هناك نظرية يهودية وليست صهيونية فقط تقول: إن العرب شهوانيون، ونسبهم يعود لإسماعيل الصياد وهو ابن جارية، ويحاولون ترسيخ ذلك في الأذهان بكل الطرق، وإذا رأوا مظهراً من مظاهر العفة والاستقامة والأخلاق والنبل رموه بالتطرف وبكل نقيصة وحولوا حسنه إلى قبح وتفوقه إلى تخلف، لذلك يفرحون عندما يسمعون بتأسيس جمعية للشواذ في بلد إسلامي، أو قرار بتحليل الحرام وتحريم الحلال ومحاربة مظاهر الاستقامة الاجتماعية والالتزام الديني المخالف لما يريدون ترسيخه عن المسلمين في أذهان العالم، وقد نجح الاحتلال وورثته في تدمير أخلاق الكثير من المسلمين وجعلهم كالسوام بل أضل سبيلاً، وهناك جمعيات يسارية وغيرها تستغل هذا العداء وتتعيش مادياً من “الإسلاموفوبيا”، وتعمل جاهدة على تطبيع النظرية اليهودية عن العرب، رغم أن أس الفساد في العالم من صنيعهم وصنيع الاستدمار الذي جلب الدعارة لبلادنا ووطنها، وصنع مسخاً يبررون ذلك ويرضونه ويدعون له كما حصل مع قناة فرانكفونية تمثل الطابور الخامس في تونس بعد جريمة دعارة على قارعة الطريق، وما يريد الصهاينة وعملاؤهم تحقيقه في المجتمعات الإسلامية هو “النمط المجتمعي” الذي صدعوا رؤوس الشعب به، دون أن يدري الشعب والأمة خلفياته والأدوار المنوطة به.
تحالف النمط
في وسائل الإعلام يتذكر المراقبون الاصطفاف الواضح في اعتصام الرز بالفاكية بباردو بالعاصمة التونسية لإسقاط حكام الترويكة وحزب حركة النهضة الذي كان يمثل العمود الفقري لها، وحديث من نعرفهم جيداً عن “إنتو شعب وإحنا شعب” في بعض وسائل الإعلام التي كانت مملوكة لعائلة بن علي وأصبحت ملكاً للدولة لكنها ظلت وفية لصاحب نعمتها.. تكالب اليسار على النهضة، وتخاذل الحلفاء زمن النضال ضد الاستبداد وانضوائهم في فسطاط النمط، ومحاولات الانقلاب على المسار الديمقراطي والعودة إلى المربع الأول، وتآكل بعض الأحزاب الحليفة كالمؤتمر بقيادة منصف المرزوقي، وانقسامه لعدة أحزاب بعضها ناصب الحركة العداء محمد عبو الذي تم ذكره آنفاً، وجماعة من حزب التكتل، حتى إن رئيسه السابق مصطفى بن جعفر، رئيس مجلس نواب الشعب آنذاك، مال للانقلابين، وحادثة غلق البرلمان والاحتفاظ بالمفتاح سنة 2013 بصمة تاريخية لن تمحى.
خارطة جديدة
كل ذلك جعل النهضة تعيد رسم خارطة تحالفاتها ورأت في الدساترة المعتدلين القابلين بالتعدد الحزبي مشروع تحالف جديد يعزز السلم الأهلي في تونس، فكانت مواقفها في رفض العزل السياسي ورفض المحاسبة الشاملة وترك الأمر للقضاء خطوة من النهضة في هذا الاتجاه، وجاء الدستور ليكون فاصلاً بين عهدين ما قبل الدستور وما بعد الدستور، وقد تعزز ذلك بلقاء ما يعرف باجتماع الشيخين في باريس سنة 2014م الذي وضع أسس الشراكة الطويلة على ما يبدو بين النهضة والنداء، ولا يمكن أن تستمر الشراكة بدون خيط ناظم لا سيما وأن السبسي الأب قد تجاوز التسعين، ونحن نعرف ما جرى داخل النداء بين شق رافض للشراكة مع النهضة (يسار التجمع) ممثلاً في محسن مرزوق الذي يقال: إنه ذراع محمد دحلان في تونس، ومنذر بلحاج وغيرهم، تجاوزوا العشرة خرجوا جميعاً من النداء، وبعضهم أسس أحزاباً أخرى، ولم يبق مع حافظ سوى من يقبل بشعب واحد ووطن واحد وأحزاب متنافسة على نفس القدر من الحقوق والواجبات، هذا الشق المعتدل بقيادة حافظ يستحق الدعم والوقوف معه على أرضية وطنية مشتركة، وفق قراءة للنهضة، دون تفريط في حقوق الوطن والمواطنين والمناضلين ودون إفراط في الثورجية التي لم يجن منها أصحابها يميناً ويساراً شيئاً بل قسمت الوطن وعرضته للتهديدات.
وترى هذه الأغلبية أنه إذا استعرضنا ما جرى لـ”الربيع العربي” والمحاولات المستمرة لوأد ما تم تحقيقه وإنجازه في تونس من قبل أطراف إقليمية ودولية لها طابور خامس قوي في تونس، يكون التحالف مع نداء تونس شق حافظ هو الحل لا لاستمرار التجربة الديمقراطية والمسار الانتقالي عموماً فحسب بل لاستمرار الوطن؛ لأن هناك من يريد تونس كذلك المثال الأسطوري “أمامك مدينة وخلفك خراب”، ونحن لا نريد خراباً لوطننا ولن نرمي بأحد في البحر، كما أن العدل الصارم مع المخالفين من النظام السابق، ظلم صارم، والكفارة بديل مقبول للجميع.