لا تبدو الحياة الاقتصادية والقوة الشرائية في الأسواق الغزية، طبيعية، وبعبارة أدق “كما كانت عليها في سنوات الحصار العشر الماضية”.
منذ 8 شهور مضت، تكاد تخلو المحال التجارية في أسواق القطاع من حركة المشترين، لبضائع فاضت بها مخازن التجار والموردين.
وقالت لجنة تنسيق البضائع على معبر كرم أبو سالم (المعبر التجاري الوحيد حالياً بين “إسرائيل” وغزة) لوكالة “الأناضول”: إن تراجعاً بنسبة 60% طرأ على عدد الشاحنات المحملة بالبضائع الداخلة إلى القطاع لتراجع القوة الشرائية.
حالة الشك وعدم اليقين نتيجة المصالحة المرتبكة حتى اليوم، دفعت المواطنين لخفض النفقات إلى الحد الأدنى، بينما تتواصل الضربات “الإسرائيلية” لأهداف في القطاع، ردا على ما يقول الجيش “الإسرائيلي”: إنها صواريخ تطلق من داخل حدود غزة.
ودخل اقتصاد غزة المأزوم عامه الحادي عشر، بينما تتواصل الاتهامات المتبادلة بين الحكومة الفلسطينية وحركة “حماس”، بتعطيل بنود المصالحة الموقعة منذ أكتوبر الماضي.
وبحسب أرقام وردت في “نداء عاجل” وجهه ممثلو القطاع الخاص في غزة للرئيس محمود عباس، سجلت نسبة الفقر في غزة 65%، بينما ارتفعت نسبة انعدام الأمن الغذائي لدى الأسر في القطاع 50% في 2017م.
تبعات الانقسام
يقول ماهر الطباع وهو محلل اقتصادي: إن عقوبات أخيرة فرضتها السلطة الفلسطينية على موظفيها العام الماضي، بخصم نسبة من رواتبهم الشهرية كان لها دور في تراجع الاقتصاد المحلي.
وفي أبريل الماضي، قضى أمر رئاسي فلسطيني بخصم 30% من رواتب الموظفين العموميين في قطاع غزة، تبعه تقاعد مبكر لأكثر من 7000 عنصر أمن، في محاولة للضغط على “حماس” لحل لجنة شكلتها لإدارة القطاع، التي استجابت للضغوطات في أكتوبر الماضي.
نسب الخصم تعدت 30% ووصل إلى 50%، وفق الطباع الذي كان يتحدث لـ”الأناضول”، “تقدر قيمتها الشهرية بنحو 20 مليون دولار.. سوق غزة منذ أبريل الماضي فقدت أكثر من 160 مليون دولار”.
ويعتمد اقتصاد غزة وأسواقه بشكل رئيس على رواتب الموظفين العموميين البالغ عددهم حتى نهاية 2016م، نحو 58 موظفاً مدنياً وعسكرياً، يضاف لهم 40 ألف موظف عينتهم “حماس” بعد الانقسام.
وينتظر 40 ألف موظف كانت عينتهم “حماس” بعد الانقسام 2007م صرف رواتبهم من جانب الحكومة الفلسطينية منذ توقيع اتفاق المصالحة، لكن الحكومة أكدت مراراً عبر رئيس الوزراء رامي الحمد الله، أن استيعابهم في المؤسسات سيكون وفق الحاجة.
وأصدر القطاع الخاص في غزة، الإثنين، بياناً طالب فيه الرئيسين محمود عباس، والمصري عبدالفتاح السيسي، بفتح معبر رفع وإلغاء الخصومات عن الموظفين، وإلغاء الضرائب والجمارك عن غزة لحين تعافي اقتصادها.
كذلك، طالب القطاع الخاص في بيانه، سلطة النقد الفلسطينية (المؤسسة القائمة بأعمال البنك المركزي)، بإصدار تعليمات للبنوك للتخفيف عن القطاع الخاص.
عقوبات أمريكية
ويعتمد أكثر من مليون لاجئ فلسطيني في قطاع غزة على المساعدات الإغاثية التي تقدّمها “أونروا”، وسط تخوفات من انقطاع تلك المساعدات عنهم، عقب تهديد واشنطن بوقف تمويلها للوكالة الأممية.
ويعتقد الطباع، أن التهديد الأمريكي بتقليص دعم واشنطن لـ”أونروا” سينعكس بشكل سلبي على الوضع الاقتصادي الذي يعاني أصلاً من الانهيار.
يأتي التهديد، في ظل أزمة مالية تعاني منها “أونروا” تسببت بعجز مالي في خزينتها وصل إلى 60 مليون دولار.
ومن المتوقع أن تنخفض الخدمات التي تقدمها “أونروا” في قطاع غزة، في حال نفّذت واشنطن تهديدها.
تراجع الودائع والقروض
بينت أرقام حديثة لسلطة النقد الفلسطينية اطلعت عليها “الأناضول” تراجعاً في حجم ودائع الأفراد والشركات في قطاع غزة إلى 1.122 مليار دولار حتى نهاية الربع الثالث من عام 2017م.
كانت قيمة الودائع بلغت 1.137 مليار دولار في الربع الثاني لذات العام، و1.125 مليار دولار في الربع الثالث من عام 2016م.
كذلك، انكمشت القروض البنكية للأفراد والشركات في الربع الثالث من عام 2017 إلى 990.4 مليون دولار، وهو أدنى رقم منذ الربع الثالث من عام 2016م.
كانت قيمة القروض المصرفية بلغت 993.5 مليون دولار في الربع الثاني لذات العام، 885.8 مليون دولار في الربع الثالث من عام 2016م.
حصار مستمر
وأوردت صحيفة “هاآرتس” العبرية، الإثنين، أن الأمن “الإسرائيلي” يرى بأن الضغط والتدهور الاقتصادي في قطاع غزة، قد يمهد “إلى انفجار خارج عن السيطرة”.
وتبلغ نسبة البطالة في غزة 45% بحسب الإحصاء الفلسطيني (حكومي)، وترتفع إلى 60% في صفوف الشباب، حتى نهاية الربع الثالث من عام 2017م.
وتعد نسبة البطالة المسجلة في القطاع العام الماضي، الأسوأ منذ 2002م، وفق رصد “الأناضول” لبيانات إحصائية رسمية.
وحتى إشعار آخر، يدخل إغلاق المعبر التجاري الوحيد بين “إسرائيل” وغزة (معبر كرم أبو سالم)، يومه الثالث على التوالي.
وتتحكم “إسرائيل” بالمعبر وحركة البضائع الصادرة أو الواردة، وتضع قيوداً على واردات السلع، بداعي “إمكانية الاستخدام المزدوج” (لأغراض مدنية وعسكرية) لها.
ونفذت “إسرائيل” خلال سنوات الحصار منذ عام 2007م، ثلاث حروب على غزة، آخرها صيف 2014م، التي أدت في جوانبها الاقتصادية لتدمير قرابة 150 ألف منشأة سكنية وتجارية.
الدولار المتراجع
ويفاقم الأوضاع الاقتصادية، انخفاض قيمة الدولار الأمريكي مقابل الشيكل “الإسرائيلي”، حيث وصل سعر صرف الدولار إلى 3.39 شيكلاً وهو الأدنى للعملة الأمريكية منذ عام 2011م.
ويقول الطبّاع: إن هذا الأمر يفاقم من صعوبة الأوضاع الاقتصادية حيث إن معظم إيرادات القطاع تكون بالعملة الأجنبية.
ويتقاضى موظفو المؤسسات الدولية والبنوك والشركات الخاصة الكبرى، رواتبهم بـ”الدولار الأمريكي”.
حركة السوق
الفلسطيني عبدالقادر أبو شعبان (62 عاماً)، الذي يعمل بائعاً للخضار منذ 52 عاماً، يشكي قلّة بيع بضاعته، بشكل يؤثر على مردوده المالي الوحيد؛ الذي يعيل من خلاله أسرته.
ويقول أبو شعبان لـ”الأناضول”: “لم نرَ أسوأ من عام 2017م من الناحية الاقتصادية، الزبائن تنظر إلى البضاعة في الأسواق دون أن تشتري لعدم توافر السيولة النقدية لديها”.
قضايا “ذمم مالية”
وتسبب انعدام مصادر الدخل لدى المواطنين من الموظفين أو التجار في قطاع غزة، بزيادة أعداد أوامر الحبس على خلفية قضايا مالية، خلال عام 2017م، بحيث وصلت 50 – 60 ألف مواطن.
وقال أيمن البطنيجي، المتحدث باسم الشرطة الفلسطينية، في حديثه لـ”الأناضول”:” نظراً لتعثر الوضع الاقتصادي بشكل كبير والعسرة التي أصابت تجار غزة، شهدت أرقام أوامر الحبس على خلفية القضايا المالية، ارتفاعاً خلال العام الماضي”.
ويرجع البطنيجي ذلك، إلى “الظروف الاقتصادية المتدهورة، من انعدام توفّر السيولة النقدية بين التجّار، إلى جانب عدم وجود طاقة شرائية لدى الناس”.
ويضيف قائلاً:” الناس أصبحت تخشى الشراء، الأمر الذي يؤدي إلى وجود بضائع كبيرة، وقلة في حجم الشراء، بشكل يصعب على التجار أصحاب الشيكات (التي استخدمت في شراء البضاعة) تسديدها”.
وبيّن البطنيجي أن معظم حالات “الذمم المالية هم ضحايا الوضع الاقتصادي الصعب (من تجار ومواطنين لديهم التزامات مالية ويصعب عليهم تسديدها) الذي يمرّ به قطاع غزة”.
من جانب آخر، أطلق بعض التجّار الفلسطينيين بغزة حملة تحت اسم “سامح تؤجر”، لاقت رواجاً في السوق الفلسطينية وفي صفوف التجار، وتقضي بتنازل التاجر عن الديون المستحقة له من المواطنين (المعسورين).
تداعياته على “الوضع الإنساني”
ويقول المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان (مقره في جنيف): إن الأوضاع الاقتصادية والإنسانية في قطاع غزة “بدأت في الانهيار”.
وأرجع محمد صيام، الباحث القانوني في المرصد، خلال حديثه مع “الأناضول”، ذلك الانهيار إلى الحصار الذي تفرضه “إسرائيل” لأكثر من 11 عاماً على القطاع.
ووثّق المرصد، وفق صيام، ازدياد نسبة الفقر بغزة إلى ما يجاوز 65%، وسط ارتفاع نسب البطالة أيضاً.
ويرى صيام أنه في حال نفّذت واشنطن تهديداتها، فإن القطاع سيكون “أمام كارثة إنسانية حقيقة”، في ظلّ اعتماد حوالي 80% من سكان القطاع، على خدمات “أونروا”.