لقد جاء نبينا صلى الله عليه وسلم برسالته السمحة بيضاء نقية، لا يخالطها دخن، ولا يعتورها قصور، كيف لا! وكلها وحي من الله جل وعلا.
وفي أثناء المسيرة المليئة بالخيرات، تظهر مشكلة المشكلات، في عدم الفهم السليم لقيم الإسلام وقواعده وقوانينه، لأسباب كثيرة ليس مجال بيانها في هذه المقالة.
وهنا كان دور العلماء أن يقوموا بواجب البيان، لهذين الأصلين، فقعّدوا القواعد، وضبطوا المسار، وراقبوا الأمر عن كثب واهتمام، وأبدعوا في صناعة خرائط الاجتهاد والاستنباط والاستنتاج، حتى يبقى الناس على طريق السلامة، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
من محطات هذا المسار في الفهم الصحيح، شهر رمضان، هذا الشهر المبارك، الذي اختاره الله ليكون معلم خير، ومنارة فضيلة، وعنوان استئناف للحياة على قيم الرشد؛ (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة: 185).
مشكلتنا في كثير من عقول المسلمين في فهم رمضان وفقهه ومقاصده، وما فيه من أحكام وحكم، وأسرار وفضائل، حتى صار هذا الشهر الكريم، عند عامة الناس، في بعض بلاد المسلمين، عبارة عن موسم للطعام والشراب، والتفنن في موائد رمضان، والابتكار لأنواع الحلويات، ونصب الزينات، والمبالغة في الإضاءات، مع الاهتمام بالمسلسلات الرديئات، والمتابعات للمسليات التي تجعل في الأمة جيلاً من الغافلين والغافلات، والسهرات المهلكات، وذلك بسبب غياب الوعي عن هذا الشهر المبارك، رغم أنه جاء ليصنع الوعي في كل مفردة من مفرداته، وفقرة من فقراته، على مفاهيم الربانية، الجامعة لمنافع الدنيا والاستمتاع الحلال بها، وعمارتها بمخططات الفعل الحضاري، مع التحقق بمعنى تحصيل رضوان الله، فيسعد المرء في الدنيا، ويكون من أهل النجاة يوم لقاء الله.
جاء هذا الشهر بفريضة الصيام، وهي كف عن شهوتي البطن والفرج، من طلوع الفجر إلى غياب الشمس، مع النية واستحضار الإخلاص لله تعالى (فالله غايتنا)، وفي هذا صحة للإنسان وعافية له، وشهد أطباء الدنيا على صدق هذه الحقيقة؛ فالصيام جنة، وفلاح وصلاح، وهو قوة لروح الإنسان، ودربة على تقوى الله، بمفهومها الشامل الذي يتسع لكل مفردات الحياة في السر والعلن، وفي المسجد والشارع، في مكان العمل وفي البيت ومع الأسرة والأولاد، مع الجيران ومع أبناء المجتمع، في السياسة والاقتصاد، في الجهاد والكفاح، في البحث عن الحرية ومقاومة الاستبداد، تقوى في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، في تقدير الموقف في كل قضية من قضايا الشأن العام، قربى لله، وطاعة له.
إذن الصيام عبادة ندرك –من خلال فهمها- منهج العبودية، التي هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأفعال؛ (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {183}) (البقرة)، فالعبادة لله لا تقتصر على جانب –على أهمية هذا الجانب– دون آخر، كما هو التصور عند الذين يريدون تنحية الإسلام عن سلطان الدنيا، وفصله عن أنظمة الحياة؛ فالصوم -على مكانته العظمى– ليس كل شيء في عالم الفروض، فجاء رمضان ليؤكد هذه الحقيقة، وليقول لنا: إن الصوم جزء من منظومة متكاملة، لا يجوز أن نؤمن ببعضها ونكفر بالباقي؛ فكانت كل أنواع العبادات متضمنة بصورة أو بأخرى، في هذه المدرسة المباركة، مدرسة رمضان، وهذا من صناعة الوعي الطيب.
الوعي الأخوي التراحمي
هذا الصيام وما يلاقيه المرء جرَّاء الامتناع عن الطعام، والشعور بعضة الجوع، وقرصة العطش هو بدوره يصنع فينا وعياً، وهو ضرورة الإحساس بمشاعر الآخرين، فتعيش –عملياً– بما يعيشون، وتعاني مما يعانون، فيدفعك هذا نحو منهج «العدالة الاجتماعية»، ويزرع فيك روح ألا تكون لنفسك فقط، ولتكون إنساناً جماعياً، ولست أنانياً لا يعترف إلا بنفسه.
بل يدرك معنى الاهتمام بشأن المكلومين والمجروحين، والجوعى، والمظلومين والمقهورين، والذين يعانون ما يعانون من الويل والضيم، في الحارة والبلدة والدولة، وفي كل أصقاع الدنيا، إن شعر بهذا وأدى ما أدى، مما عليه من واجب أن يقوم به، هذا في حال الجوع، وكذا وقت الإفطار، لما تكون أطايب الطعام، في الفطور والعشاء والسحور، هنا يتذكر إخوة له جوعى لا يجدون هذا الذي بين يديه، بل ربما لا يعرفون طعمه، ولا يشمون رائحته، بل ربما كانوا في حصار، أو تحت براميل الموت، فيصنع لديه وعياً بضرورة الاهتمام بهؤلاء الإخوة، الذين نجدهم في فلسطين وسورية وآراكان واليمن، وبعض دول العالم.
يقول سيد قطب: “عندما نعيش لذواتنا ولشهواتنا تبدو لنا الحياة قصيرة، تافهة، ضئيلة، تبدأ من حيث بدأنا نعي، وتنتهي بانتهاء عمرنا المحدود، أما عندما نعيش لغيرنا (أي: عندما نعيش لفكرة) فإن الحياة تبدو طويلة عميقة، تبدأ من حيث بدأت الإنسانية، وتمتد بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض”.
معاني الارتقاء
ومما يعلمنا هذا الشهر من وعي هو أن الصيام، بمفهومه الشرعي الذي ذكرناه، لا بد أن يترك فينا معاني الارتقاء بالنفس، ويبني فينا الإرادة، التي تؤدي إلى ألا نقول إلا الحق، لا نخشى إلا الله، ولا تأخذنا في الله لومة لائم، ولا نشهد الزور، بكل معانيه، وبسائر تفاصيله، نقول الحق ولو على أنفسنا، نصدع بالحق بلا مواربة، ندوي بكلمة حق عند سلطان جائر، ولو كلفنا ذلك قطع أعناقنا، كل ذلك مع الحكمة البالغة، والدعوة بالتي هي أحسن، وإلا فإن الصائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش، وهنا تكون الكارثة، وتحصل المصيبة، وفي مثل هذا الوضع تأتي أهمية الوعي الذي يصنعه رمضان لنا.
وفي الحديث الصحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”.
كما يعلمنا رمضان معنى الخلق الحسن، وطبيعة التعامل مع الآخرين، والصبر على أذاهم، وتحقيق معنى “السلم المجتمعي”، فلا تكون هناك ردود فعل مسيئة، ومن باب أولى ألا تكون هناك هنات مسبقة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يصخب (الخصام والصياح) فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم (الرائحة) أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه” (رواه البخاري ومسلم واللفظ له).
جاء رمضان ليصنع فينا وعياً مميزاً، في أن رمضان شهر الصبر، والاحتمال لمشاق الحياة، بل شهر الجهاد، والبذل والفداء، فكثير من الغزوات والمعارك، كانت في هذا الشهر المبارك، وكثير من أبنية الخير تمت في هذا الشهر المبارك، عبر التاريخ الإسلامي في شهوده الحضاري، وفي هذه المحطة يحذرنا رمضان ألا يكون هذا الشهر شهر كسل ونوم ودعة وخمول، سهر بالليل على فارغات الأمور، ونوم بالنهار في أكثر ساعاته، وفي صورة كهذه تبرز حقيقة ما يجب أن يكون عليه المسلم في هذا الشهر الكريم، فلا تتوقف المصانع، ولا تعطل الوظائف، ولا تغلق أبواب العمل، بل تبقى مشرعة في كل محتويات ما فيها من أجر وثواب، مع صوم نهار، وقيام ليل، وصدقة ونفقة، وتفقد لأحوال الضعفاء والمحتاجين، مع قراءة قرآن، وحفظ ما تيسر، ومراجعة ما حفظ، مع مدارسة وفهم.
فرمضان شهر القرآن، وهو دستور المسلم، فيه كل خير، وجامع لكل المناهج والمباهج، وصانع الوعي فينا، فرمضان يحتم علينا العيش في ظلال القرآن وتدبر معانيه، فالقرآن ورمضان بينهما تلازم من جوانب متعددة، ولا شك أن هذا له حظه، في مناهج الفكر والعمل، ومن ركائزه صناعة وعي المسلم على مفاهيم الطمأنينة والاستقرار والنجاح والفلاح، كل ذلك في مواجهة تحديات الفلسفات التي أهلكت الحرث والنسل، وجعلت جزءاً من البشرية في حالة تيه وشرود.
تصحيح المسار
ومن صناعة الوعي في شهر رمضان أن هذا الشهر المبارك دورة تمر علينا كل سنة، فرض من الله في القرآن أنزله، وفي كل دورة سنوية تكون المراجعات، مضى عام، وعام قادم، فتسرد الحسابات، وتفتح الملفات، على مستوى الفرد والأسرة والجماعة والمؤسسة، فردياً وجماعياً، حتى نصحح المسار، ونضع أنفسنا أمام حقائق الأشياء كما هي، دون لف ولا دوران، فنقول: هنا أصبنا، وهناك أخطأنا، هنا أذنبنا، وهناك كنا موفقين بكذا وكذا، في هذه القضية لم يحالفنا الصواب، وفي المسألة الفلانية نجحنا نسبياً، وفي مكان آخر نسبة التوفيق مرتفعة.
وهكذا حتى نخرج بنتائج مهمة في هذا الباب، فإن كان خيراً حمدنا الله، وعلينا أن نزيده ونكثر منه، وإن كان غير ذلك صححنا، ورتبنا بيتنا من جديد، ونخطط لعام قادم، مليء بالحيوية والأداء الحسن الصالح، فإن وجدنا في صحيفتنا ذنوباً استغفرنا الله وتبنا إليه، وهكذا، ومن لم يفعل هذا يكون في وعيه نقص، وفي فهمه خلل، وفي تربيته ثغرات، يأتي رمضان معلماً لنا هذا، فيعلوا نصاب الوعي الحق، وهو المقدمة لكل نجاح.
وفي الختام، قد يقول قائل: هل تريدونها مثالية مفرطة حتى نحرم من المباحات، ونحبس أنفسنا عن طيبات الرزق؟
نقول: ومن قال هذا؟! بل نقول: هذا الشهر المبارك فيه من الفرحة والاستمتاع بالمباحات والأشياء الجائزات، من خلال فهم سليم، ووعي دقيق، وفي هذا يكون التوازن، وهو ما أردنا إثباته في هذه المقالة، ورحم الله القائل: “ينبغي أن يكون لنفوس المتقين استراحات ومباحات”.