د. بسيوني نحيلة
يُعد شهر رمضان من أعظم المحطات الإيمانية العملية في تطوير الذات وتنمية القدرات، التي تساعد على بناء الفرد المتميز في الفهم والتخطيط والإنجاز؛ بما يؤهله ليكون خير تابع لخير كتاب أنزله الله. ومن أهم الأشياء التي يتدرب عليها المسلمون خلال الصيام في شهر رمضان صناعةُ الأهداف والتدريب على إنجازها؛ نتبين ذلك من خلال التمعن في بعض الواجبات والآداب التي يؤديها الصائمون أثناء هذا الشهر الكريم، والتي توضح لنا مجملًا بعضًا من أنواع الأهداف التي يجب أن يفطن إليها المسلم ويتعود على صناعتها وصياغتها في جميع أحواله، ليس في رمضان فقط، إنما في جميع شؤون الحياة. وهذا ما سنحاول التعرف عليه من خلال هذا المقال:
الهدف المرحلي: يتدرب الصائمون على صناعة هذا الهدف قبل مجيء شهر رمضان، وذلك بالتركيز على تحقيق هدفٍ مرحلي معلوم، وهو إدراك نفحات شهر رمضان المبارك، وهذا النوع من الأهداف يتطلب النظر بعين ثاقبة والعمل بجد من أجل الوصول إلى المرحلة المنشودة (نفحات شهر رمضان)، وتبدو أهمية هذا الهدف المرحلي في أن تحقيقه يمثل قاعدة لبناء أهداف أخرى أعمق وأدق.
الهدف الدقيق: وذلك مع آخر ليلة من شعبان، عندما تستعد الأمة بأكملها لإنجاز هدف رؤية هلال شهر رمضان، أو حساب وقت ولادته لتأكيد رؤيته، ويتكرر هذا المشهد الجماعي للأمة نحو هدف مثيلٍ مع نهاية الشهر أيضاً. جاء في الحديث:” صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته”. (رواه البخاري). ولدقة هذا الهدف تجتمع الأمة في المشارق والمغارب لتحقيقه، وينوب عن الأمة فيه العدول الثقات من أصحاب الخبرة، والنظر الثاقب.
الهدف الفردي: ويتم ذلك مباشرة بعد تحقيق الهدف الجماعي في رؤية هلال شهر رمضان، فيبدأ كل فرد بوضع هدفه من الصيام، وذلك عن طريق (النية الخالصة) التي تجتمع مع الهدف في المعنى اللغوي (وهو قصد الشيء) ويقع تحقيق هذا الهدف والتأكد من إنجازه على عاتق كل فرد بناءً على إخلاصه وتجرده.
الهدف العام والهدف الخاص: يقول العلماء: إن النية الواحدة مع أول الشهر كافية لصيام الشهر كله. ومنهم من يقول: بوجوب النية لكل يوم. وللأخذ بالرأيين معًا فائدةٌ في تدريب المسلم على نوعين من الأهداف (الهدف العام) ويكون ذلك بعقد نية واحدة لصيام الشهر كله وذلك مع رؤية الهلال. و(الهدف الخاص) ويكون عن طريق النية التي تعقد لصيام كل يوم من أيام هذا الشهر المبارك مع السحور وعند مطلع فجر كل يوم. ولا شك أن النية اليومية تعد من التدريبات التي ترفع مستوى الإخلاص، وتدرب القلب على مداومة استحضاره في كل شأن.
الهدف الواقعي الطموح: ينتقل شهر الصيام بالمسلم إلى التدريب على صناعة هذا الهدف من خلال استهداف أعظم الأمور ثوابًا وأجلها قدرًا، إنها (مغفرة الله) التي يدفع إليها الإيمان المتجذر في قلب العبد، وتطلعه الخفاق إلى الأجر، وذلك مع إدراك حقيقة النفس في تقصيرها والاعتراف بلَمَمِها. جاء في الحديث: “من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه” (رواه البخاري). ولا شك أن استحضار هذا الهدف مع معرفة حالة النفس، والتحلي بعميق الرجاء والأمل في موعود الله، يزيد من الحرص والإصرار على نيل المغفرة الموعود بها ومحاولة الوصول إليها، وبخاصة إذا تكررت فرصتها مع قيام ليالي الشهر المبارك أو ليلة منه (ليلة القدر) كما جاء في الأحاديث.
الهدف المزدوج: جاء في الحديث: ” للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه” (رواه مسلم). ونلحظ هنا وجود هدفين دل كلاهما على الآخر وارتبط به، فكان تحقق الأول دليل على إمكانية حصول الثاني، فمن استشعر فرحة الفطر مع كل يوم تجده يرقب الفرحة الكبرى عند لقاء ربه، وهذا ما يسمى (بباعث الأمل) الذي من أهم فوائده ربط جملة من الأهداف ببعضها من حيث التخطيط والسعي للإنجاز.
الهدف المتحرك: فمع اقتراب العشر الأواخر من شهر رمضان، يصل الصائمون إلى مهارة التعامل مع هذا النوع المتقدم من الأهداف، فيقومون بتحري ليلة القدر في جميع الليالي الأخيرة، وبخاصة الوتر منها، رجاء أن ينالوا ثواب عبادة الألف شهر. جاء في الحديث: “فيه ليلة خير من ألف شهر من حُرم خيرها فقد حُرم”. (رواه أحمد). ولا يخفى صعوبة تحقيق هذا النوع من الأهداف، ولذا يجب أن يستجمع الفرد عدة أشياء للوصول إليه. منها: وضوح حاد في المقصد، وقوة نفسية عظيمة، وإرادة لا يتطرق إليها ضعف، وعزيمة لا تفتها الصوارف والانشغالات، وتفاؤل لا يهزمه طول الليالي ولا قلة السالكين، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر جد واجتهد (رواه أحمد).
الهدف طويل الأمد: من علامات قبول الأعمال الديمومة عليها وعدم انقطاعها، ولذا يحرص الصائم حقًا على تحقيق هدف الالتزام بالطاعات والاستمرار عليها بلا مقاطعة ولا تكاسل، ويظل عاملًا مخلصًا حتى يلقى الله. جاء في الحديث “خير الأعمال أدومها وإن قل” (رواه البخاري).
ولا يكتفي العابدون الصادقون بمهارة صناعة الأهداف أو الإبداع في صياغتها، فهم يعلمون أن العبودية لله محض عطاء يتكرم الله به على من يشاء من عباده؛ فربما يتحقق هدف لغير هدّاف، وربما لا يحقق الهدّاف من أهدافه شيئًا، ولذا وجب استنفار جميع الحواس واستجماع القوى الروحانية والمادية، وليكن سير القلوب إلى الله وتعرضها لنفحاته أسرع من الأهداف وأسبق من الأعمال.
—-
* المصدر: الألوكة.