بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لم ير الغرب مانعاً من السماح لتركيا بانتخابات حرة بعد أن اعتقد أن تركيا قد انسلخت من دينها وتنكرت لأمتها، فمظاهر العري والفحش والخنا المنتشرة في كل مكان كانت توحي بذلك، فلماذا لا يسمح لتركيا بانتخابات حرة تلحقها بأخواتها الأوروبيات بعد أن “تغربت” و”تأوربت” ونسيت دينها، كما كان يظن، وأدارت ظهرها لأمتها، وتنكرت لتاريخها؟
اعتقد الأوروبيون والأمريكيون وقوى الهيمنة العالمية الخفية والمعلنة التي تدير العالم من وراء ستار أن الانتخابات الحرة في مجتمع متفسخ متغرب لن تأتي إلا بمن ربوهم على أعينهم قبل وبعد إلغاء الخلافة العثمانية الإسلامية، ومنذ أيام الاتحاد والترقي.
ولكن أتت الرياح بما لا يشتهون، وجاءت الانتخابات بمن يكرهون!
فقد انتهز فرصة الحرية، واحد من رجال تركيا، رجل تركي أصيل، عاصر كل المؤامرات التي حيكت ضد قومه وأمته، وقد كان في ريعان شبابه عندما أقدم أتاتورك “الرجل الصنم” على مؤامرة إلغاء الخلافة.
انتهز الرجل الفرصة وانشق هو وثلاثة رجال من رفاقه علي حزب أتاتورك، وأسس حزب أسماه الحزب الديمقراطي، خاطب من خلاله ضمير الأمة، ففاز في أول تجربه للحزب في عام 1946م بـ62 مقعداً في البرلمان، ثم اكتسح الانتخابات التالية في عام 1950م وفاز حزبه “الحزب الديمقراطي” بـ318 مقعداً، ولم يترك لحزب أتاتورك إلا 32 نائباً فقط.
جاءت الرياح، إذن، بما لا تشتهي قوى الهيمنة والتسلط والقهر الغربية والعالمية، واستقرت تركيا مرة أخرى في أيدي أبناء لها مخلصين!
تسلم مندريس ورفاقه زمام الأمور فأضاءت تركيا مرة أخرى، بعد أن أظلمت طويلاً، أضاءت بأنوار الحب والولاء والإخلاص والإنتاج وحولها رجالها المخلصون من الجمود إلي النمو، ومن الركود إلى الحركة، ومن الكساد إلى الازدهار.
وعدنان مندريس لمن لا يعرفه هو علي عدنان أرتكين مندريس الشهير بعدنان مندريس، أول زعيم سياسي منتخب ديمقراطياً في تاريخ تركيا الحديث، كان رئيساً للوزراء لمدة عشر سنوات بين عامي 1950 و1960م، مؤسس الحزب الديمقراطي -رابع حزب معارض ينشأ بصفة قانونية في تركيا- سنة 1946م.
أعاد مندريس الأذان باللغة العربية، فعادت الروح إلى الأمة مع صيحات “الله أكبر”.
أعاد للتعليم روحه بعودة تدريس القرآن والإسلام للمدارس، وأنشأ مدارس الأئمة والخطباء (المعاهد الدينية) التي خرجت لتركيا رجالاً من بينهم العبقري الفذ رجب طيب أردوغان.
عادت الروح للأمة فابتهجت واشتغلت ونجحت وأنتجت، وتصدرت الأمم عندما تخلصت من بعض القيود التي كبلتها بها علمانية الغرب وقوانين أتاتورك الجائرة.
وتصدر حزبه، الحزب الديمقراطي، الذي لم يعلن أبداً أنه حزب إسلامي الانتخابات التركية لثلاث دورات متتالية، لتزدهر تركيا ازدهاراً غير مسبوق، في مدة حكمة التي امتدت لعشر سنوات.
طفرة اقتصادية
أحدث مندريس طفرة اقتصادية، زراعية وصناعية واجتماعية، فقام بإدخال تكنولوجيا الزراعية إلى الأرياف، وأرسل الجرارات والحاصدات إلى الفلاحين كما وزع عليهم الأسمدة الكيميائية وأرسل إليهم مرشدين زراعيين، كما أنشأ العديد من السدود الكبيرة بمعدل سد في كل منطقة تقريباً، حتى أخذت تركيا تتصدر الدول الأوروبية والشرق الأوسط في إنتاج القمح والبندق والتين المجفف والعنب والقطن والشاي ومختلف أنواع الفاكهة والخضار، وأنشأ العديد من مخازن الحبوب، كما ربط جميع القرى بشبكات طرق، وأنشأ مصانع النسيج ومصانع عصير الفواكه ومصانع الإسمنت ولوازم البناء ومصانع الأحذية ودباغة الجلود ومصانع الصابون والأدوية(1).
عودة الظلم والظلام
وظن الأتراك الذين أفقرهم أتاتورك، بعد غنى، وأذلهم بعد عز، وحال بينهم وبين ممارسة شعائر دينهم ومنعهم من الحج ومن الصلاة في كثير من المساجد التي حولها إلى مخازن للغلال وأجبر نساءهم على التعري ومنعهن من ارتداء الحجاب، ظنوا بعد عشر سنوات تنفسوا فيها الحرية تحت حكم مندريس أنهم انعتقوا من هذا العنت، وأن حقبة أتاتورك وحزبه الفاشل قد ذهبت إلى غير رجعة!
إلا أن قوى الإجرام والهيمنة والتسلط العالمية كانت لا تزال تمسك بخيوط اللعبة في تركيا، وكان الجيش الذي تربى على علمانيتها مازال مستعداً لتنفيذ أوامر قوى الإجرام والاحتكار!
فقام العسكر بعمل انقلاب عسكري أطاح بعدنان مندريس أول رئيس حكومة منتخب ديمقراطياً والأكثر شعبية في تاريخ تركيا الحديث.
وعلى عجل، نصبت محكمة عسكرية وجدت مندريس مذنباً بتهمة التخطيط لإقامة «دولة إسلامية»! وحكمت عليه بالإعدام شنقاً.
وفي اليوم التالي، نفذ العسكر حكم الإعدام بمندريس وببعض رفاقه، بينما نال رئيس الجمهورية حكماً مخففاً، كونه كان من رفاق أتاتورك فألقي في السجن لـ25 عاماً.
وأنهي عسكر تركيا تجربة مندريس الناجحة، ليعيدوا تركيا عقوداً إلى الوراء، ولتتخبط عقوداً أخرى حتى تعود وتختار زعيماً فذاً مثل أردوغان ليبدأ القصة من أولها، يبدأ من الصفر، مع بدايات القرن الحادي والعشرين!
لمن يعمل هؤلاء؟
فلصالح من، عدا أعداء تركيا، والأمة التي تنتمي إليها تركيا، عمل عسكر تركيا؟ ولصالح من انقلبوا على أول رئيس وزراء شرعي منتخب، هو الأكثر شعبية في تاريخها الحديث؟
وماذا حققوا بانقلابهم غير التخلف والدماء والفوضى؟
وماذا كان يمكن أن يحدث لو لم ينقلبوا على أول زعيم تركي منتخب ديمقراطياً؟
كيف كان سيكون شكل تركيا لو لم يضع عليها نصف قرن تقريباً من التخبط والتخلف؟
وكيف كان سيكون شكل العالم لو لم يحدث انقلاب الجنرال جمال جورسيل على أول زعيم تركي منتخب؟
وكيف كان سيكون شكل العالم العربي؟ والعالم الإسلامي؟ والعالم الثالث؟
من غرس هؤلاء؟
من يوظفهم؟
إلى من ينتمون؟
ومن يعطيهم الأوامر بذبحنا، فينفذونها بحماس شديد وكأنهم يقومون بتكليف مقدس؟
في عام 1956م قام مندريس بطرد السفير الصهيوني بعد العدوان الثلاثي على مصر، وتوترت علاقات تركيا مندريس مع الكيان الصهيوني، وتوثقت وتقاربت مع العالم العربي والإسلامي، حتى انقلب عليه العسكر وأعادوا علاقاتهم الحميمة مع الكيان الصهيوني الغاصب.
وبعد الانقلاب وإعدام مندريس كتب الصحفي التركي سامي كوهين: لقد كان السبب المباشر الذي قاد مندريس إلى حبل المشنقة سياسته القاضية بالتقارب مع العالم الإسلامي والجفاء والفتور في علاقته مع “إسرائيل”.
وكان آخر ما قاله مندريس وهو على حبل المشنقة: في هذه اللحظة التي أنا فيها على وشك مفارقة الحياة، أتمنى السعادة الأبدية للدولة والأمة.
الهامش
(1) كتاب “ذئب الأناضول” لمصطفى الزين يونيو 1991م.