يصر الاحتلال الروسي مع النظام الاستبدادي في دمشق وأتباعه على تزييف الواقع واستخدام المصطلحات الكاذبة للتعبير عن استبدادهم وقتلهم للشعب السوري وتشريده في أرجاء الأرض. فهم مثلاً يعدّون ثورة الشعب السوري منذ2011م على الاستبداد والقهر وطلب الحرية والكرامة والعدل، صراعاً بين الحكومة الشرعية والإرهابيين وما يسمى الجماعات المتطرفة، ويزعمون أن هذه الجماعات لو وصلت إلى الحكم ستقضي على الوجود المسيحي في سورية والبلدان المجاورة، وبناء عليه يرون أن المسيحيين دعموا النظام في دمشق خوفاً على وجودهم.. ويرتب الروس والنظام وأتباعه على هذه الرؤية الفاسدة، أن التدخل الروسي كان “حربا مقدسة”- أي صليبية ضد الإرهاب، أي ضد الإسلام، وليس لحماية المسيحيين فقط كما عبر الأنبا “كيريل” رئيس الكنيسة الأرثوذكسية في موسكو، وهو يودع الفوج الأول من الغزاة الروس الذين احتلوا سورية مع آخرين بعد أن دعاهم النظام في دمشق، وأضاف القوم إلى ذلك أنهم يحمون المسلمين المعتدلين ممن يؤمنون بالتعايش السلمي بين كافة الديانات!
بيد أن الناطق الرسمي الروسي باسم قاعدة حميميم المحتلة في غرب سورية واسمه الكسندر إبفانوف صرح أخيرا في 23/7/2019 وفقا لموقع “القوات اللبنانية” (المعبرة عن المارون)؛ أن القوات الجوية الروسية تشن “هجمات مركزة ومكثفة على مقاطعة إدلب ردا على قصف مسيحيين أرثوذكس في مدينة محردة”.
وقال، إن “دخولنا إلى سوريا هو لحماية المسيحيين فقط(؟؟!)، لكن رغم كل هذا القصف تستمر المجموعات الإرهابية بالاعتداء على محردة، يجب أن نجد حلاً سريعاً لهذا الأمر”.
لم يمر تصريح ألكسندر إيفانوف مرور الكرام، ولم يتقبله المسيحيون، حين رأوا فيه فتنة بينهم وبين المواطنين المسلمين الذين يعيشون في كنفهم، فقد استنكرت “منظمة سوريون مسيحيون من أجل السلام” تصريحات الضابط الروسي، مؤكدة أن القوات الروسية لم تكتف “بعمليات القصف والتدمير والتهجير الممنهج للسوريين طيلة السنوات الماضية دعماً لنظام الأسد، المتهم بانتهاكات إنسانية وباستخدام أسلحة محظورة عالميا، بل دأبت على زرع الفتنة بين أبناء الشعب السوري باستمرار، عبر ادعاءاتها حماية المسيحيين في الشرق حينا والمسيحيين في سوريا حينا آخر، تبريراً لعمليات القصف”.
وأوضحت المنظمة أن تصريحات إيفانوف “تحمّل السوريين المسيحيين الأرثوذكس وزر عمليات القصف الأخيرة في إدلب”. واستنكرت المنظمة “هذه الادعاءات الكاذبة”، مضيفة: “نوضح للرأي العام السوري أن روسيا تتدخل في سوريا لدعم بقاء نظام الأسد في السلطة فقط، وهو نظام انتهك حقوق المسيحيين السياسية والمدنية طيلة عقود، وتسبب بتهجيرهم” وحذرت المنظمة من أن “هذه التصريحات الأسدية/الروسية تعرض حياة المسيحيين للخطر المباشر، بوصفهم فاعلين في التسبب بالعنف على إخوتهم وأبناء بلدهم، في حين أنهم لم يكونوا يوما كذلك”.
وطالب البيان كلا من “القوات الروسية والأسدية بإبعاد الراجمات المختبئة خلف منازل المدنيين في محردة حفاظا على حياتهم، ونرفض حماية نظام الأسد المفرط في الإجرام وحليفته روسيا”.
قبل هذا التصريح بأيام أقام الروس وصديقهم الأسد مجزرة بشعة في بلدتي معرة النعمان وسراقب راح ضحيتها عشرات المدنيين، وأخذ وزير الدفاع الروسي يتنصل من المجزرة، ومن قتل أهلها البسطاء الأبرياء، ولكن ألكسندر من حيث أراد الفتنة أثبت الجريمة على قوات الاحتلال الروسي، وأن قواته ارتكبتها حسب زعمه لحماية المسيحيين في محردة! وبقي تصريحه محاولة رخيصة لبث الفتنة بين أبناء الشعب الواحد، وزرع الكراهية والبغضاء في نفوسهم.
الادعاء بحماية المسيحيين حجة استعمارية قديمة رددتها حكومات الاستعمار الغربي، وخاصة بريطانيا العظمى وفرنسا وروسيا.. والمسيحيون لم يطلبوا من أية قوة استعمارية حمايتهم، لأنهم يعيشون مثل غيرهم من المسلمين في أمن واطمئنان، بل يحظون في بعض الأحيان بامتيازات لا يحظى بها المسلمون أنفسهم، وخاصة في المجال الاقتصادي والمهني. ويكافحون الطغيان والاستبداد مع المسلمين. هذه حجة مكشوفة ومفضوحة ولا تنطلي على عقل سليم، لأن المسيحيين عانوا من الاستعمار ووكلائه من أهل البلاد على مر العصور، بل إن المسيحيين الذين انضموا للاستعمار كانوا خونة، ولم يعبروا عن الطائفة.
ونحن لا ندرى معنى مصطلح المسلمين المعتدلين أو غير المعتدلين، لأن هذا المصطلح لا نظير له بين اليهود والنصارى، فهل يقصدون بالمسلم المعتدل ذلك الذي يتخلى عن حريته ويرحب بالاحتلال، ويقبل بثقافة غير ثقافته الإسلامية؟ إما أن يكون الشخص مسلما أو غير مسلم. فالمسلم له خصائص ومعالم وملامح دينية وسلوكية وقيمية، إذا انحرف عنها كان له حسابه عند الله، أو ولي أمره. اما المعتدل وغير المعتدل، فاختراع استعماري، يماثل اختراعهم الشرير: الإرهاب الإسلامي، بينما لا يستطيع أحد أن يتحدث عن الإرهاب المسيحي، والإرهاب اليهودي، والإرهاب البوذي، والإرهاب الهندوسي، والإرهاب الشيوعي…
إن شيطنة المسلمين وزرع الفتنة بينهم وبين أهل الوطن من غير المسلمين لعبة قديمة طالما لجأ إليها المحتلون الغزاة ليسوّغوا جرائمهم، وهيمنتهم، ونهبهم للشعوب الإسلامية الضعيفة.. وما روسيا الاتحادية إلا كيان استعماري غربي فيه وحشية الاستعمار وعدوانيته وهمجيته، وما زال التاريخ يحفظ مجازر روسيا الوحشية في أفغانستان والشيشان والقرم والدول الإسلامية الأخرى في وسط آسيا، وأخيرا كان الإرهاب الروسي الوحشي في سوريا حيث قصف بطائراته الأسواق والمستشفيات والمدارس والمساجد والبيوت السكنية، وقتل عشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء البسطاء الذين لم يفكروا يوما في حمل السلاح أو مواجهة نظام البراميل الإرهابي والكيماوي المجرم.
إن روسيا تسعى اليوم بكل قوة لوراثة النظام الاستعماري الغربي أو مشاركته على الأقل في قهر الشعوب الإسلامية، واستغلال موقعها الاستراتيجي، ونهب ثرواتها وابتلاع دخولها في صفقات سلاح بائسة أو مشروعات لا عائد من ورائها، وفوق ذلك تعمل من خلال روح صليبية همجية لدق الأسافين بين أبناء الشعب المسلم الواحد، وزرع الفتن والإحن، وسحب زعامة الأرثوذكس من المنطقة العربية.
لقد ذكرت صحيفة “واشنطن بوست” أن مجموعات روسية من رجال الدين، وجماعات إغاثية، وموظفين حكوميين، يعملون بهدوء لتعزيز علاقاتهم مع المكونات المسيحية في سوريا! وقالت الصحيفة، إن القادة الروس يستغلون المناسبات الدينية المسيحية ضمن خطة أقرها الكرملين، لتعميق الروابط الاستراتيجية مع المسيحيين السوريين.. كما تلعب روسيا على نقطة إعادة إعمار الكنائس التي دمرتها الحرب، وتركز روسيا نشاطها على بلدة معلولا، البلدة المحفورة داخل الصخور في الجبال الواقعة شمال شرق دمشق، التي اعتاد الحجاج المسيحيون الحج إليها من جميع أنحاء العالم لزيارة “دير مار تقلا”. وقيل إن هناك مخططا لإقامة فندق في معلولاً حيث تعد آخر المدن في العالم التي لا تزال تجيد اللغة الآرامية التي ينسب إلى السيد المسيح عليه السلام التحدث بها.
وإذا عرفنا أن رأس النظام السوري وصف قائد الاحتلال الروسي فلاديمير بوتين أنه “المدافع الوحيد عن الحضارة المسيحية الذي يمكن الاعتماد عليه”، فلنا أن نفهم المخطط الروسي لفصل الطائفة المسيحية عن محيطها الطبيعي، فضلاً عن تمزيق الوطن الذي كان في يوم ما عاصمة للعالم، لأنه كان عاصمة الخلافة الإسلامية.
إن جرائم روسيا في سورية مضافة إلى جرائم العالم الغربي، والمعسكر الطائفي، وصمة عار في جبين الإنسانية جمعاء، مما حتم أن يفيق العرب والمسلمون، ويستيقظوا لمواجهة أخطر حملة في التاريخ لإزاحتهم من الوجود، وهم يملكون القدرة على المواجهة حين يحتكمون إلى كتاب ربهم، ويقيمون منهجه في العدل والشورى والعمل المتقن وتطهير أنفسهم من الفرقة والتواكل والاعتماد على غير الله.
***