ربما تفاجأ كثيرون بالاتفاق التركي الليبي حول ترسيم الحدود البحرية بين الطرفين، ولكن تركيا كانت تسعى لهذا الاتفاق منذ عهد معمر القذافي وقد تعثر التوصل للاتفاق أكثر من مرة، ورغم ذلك حاولت تركيا مراراً للوصول له؛ وذلك لأن هذا الاتفاق يقدم لتركيا العديد من الفوائد والمكاسب، وقد قام الرئيس أردوغان ورئيس حكومة الوفاق فايز السراج بالتوقيع على اتفاقيتين إحداهما عسكرية والأخرى في مجال تحديد مناطق الصلاحية البحرية.
يعد التفوق على تنافس السيادة والمناطق الاقتصادية الخالصة بين تركيا من جهة، واليونان وقبرص الرومية من جهة، أحد الدوافع التي تحركت تركيا بسببها للتوصل لاتفاق مع ليبيا، حيث يحق لها بناءً على الاتفاق المطالبة بحوالي 100 كيلومتر مربع بحري من اليونان وقبرص الرومية، ومع تزايد مساحة نفوذ تركيا فإن قوتها أيضاً تزداد طردياً.
وعندما تزيد تركيا من هذه المساحات البحرية الخالصة لها، فإنها تزيد من مناطق نفوذها كما تزيد من احتمال العثور على موارد للطاقة في هذه المنطقة التي تعد تركيا بحاجة ماسة لها نظراً لاعتماد تركيا على واردات الطاقة من روسيا وإيران؛ وبالتالي هذا يقلل من هامش استقلال سياستها الخارجية (يوجد في منطقة شرق المتوسط حوالي 3.5 تريليون متر مكعب من الغاز الطبيعي، و1.7 مليار برميل من النفط الخام)، ومن المعروف أن تركيا تنفق سنوياً على واردات الطاقة ما يزيد على 45 مليار دولار، وهو الأمر الذي يضغط على ميزانيتها، وفي حال استطاعت تركيا الحصول على بدائل أقل تكلفة فهذا سوف يمنحها قوة ومزايا أفضل.
كما تفرض تركيا من خلال الاتفاقية نفسها كطرف في أي عملية بناء أنابيب لنقل الغاز عبر البحر، بحيث لا يمكن لأي دولة من دول التصدير القيام بهذا الأمر بدون سماح تركيا ومشاركتها في عملية نقل الغاز إلى أوروبا كوسيط، وقد سعت دولة الاحتلال “الإسرائيلي” لبناء خط أنابيب شرق المتوسط مع اليونان وقبرص منذ عام 2015م، وقد توصلت لتفاهمات حول ذلك، ولكن الاتفاق التركي الأخير يقطع الطريق على هذا الخط الذي هو بالأصل يواجه صعوبات فنية واقتصادية.
ومع وجود خط لنقل الغاز الروسي لأوروبا عبر تركيا، فإن وجود خط آخر لغاز المتوسط سيجعل تركيا الأولى عالمياً كوسيط ناقل للغاز من دول المصدر إلى أوروبا، وبهذا تحبط تركيا أي محاولات لعزلها من قبل دول منتدى غاز شرق المتوسط.
من المكاسب الأخرى التي تحققها تركيا أنها تمتلك عنصر قوة كبيراً في ظل الخلافات حول مستقبل الحل في قبرص وحقوق سكان الجزيرة الأتراك في أي مفاوضات مقبلة في ظل الدعم الكبير الذي تتلقاه قبرص الرومية من الاتحاد الأوروبي.
كما أن الاتفاق يوفر أساساً قانونياً لتركيا لعمل السفن والتنقيب في محيط سواحل قبرص.
من زاوية أخرى، يسمح الاتفاق مع ليبيا بتواجد القوات البحرية التركية على الشواطئ الليبية، وهذا يجعل تركيا متداخلة مع عدة قضايا تمس الاتحاد الأوروبي؛ مثل أمن ليبيا والهجرة من أفريقيا إلى أوروبا، وبالتالي يزيد من أهمية تركيا في أي عملية مباحثات مع الاتحاد الأوروبي.
كما تستفيد سفن التنقيب التركية من الحصول على مناقصات للتنقيب في السواحل الليبية؛ وبالتالي الحصول على امتيازات في حال تم الكشف عن احتياطيات في المنطقة، في ظل المنافسة مع شركات فرنسية وإيطالية وأمريكية تريد الحصول على هذه الامتيازات.
يعتقد أن الاتفاق التركي مع حكومة الوفاق الليبية قد حصل على ضوء أخضر أمريكي بسبب استياء الإدارة الأمريكية من سماح حفتر للروس بالعمل العسكري شرق ليبيا، وتواجد أعداد كبيرة من المليشيات الروسية التابعة لشركة “فاغنر” الروسية، وهو أمر أكده الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، واعتبره مبرراً لوجود قوات تركية أيضاً للدفاع عن حكومة الوفاق الليبية المعترف بها من الأمم المتحدة في طرابلس، وهذا الأمر إن صح، أو بشكل أدق بقي مستمراً؛ فهو يزيد من التنسيق بين تركيا والولايات المتحدة، أو يوازن العلاقات مع روسيا في ظل وجود خلافات أخرى.
بالرغم من وجود مكاسب عديدة لتركيا جراء الاتفاق مع حكومة الوفاق الليبية، فإن هناك تحديات تواجه تركيا بسبب المنافسة مع مجموعة من الدول تنظر بعداء للخطوات التركية في ليبيا وفي المنطقة الأوسع، وبالتالي من المحتمل أن تقوم هذه الدول بزيادة الضغوط والتكلفة أمام تركيا التي يتضح حتى الآن أنها ما زالت مصممة على المضي قدماً في اتفاقها الأخير مع الحكومة الليبية.
وقد يكون أول ما تقوم به هذه الدول زيادة الدعم لحفتر وخططه للقضاء على حكومة الوفاق والسيطرة على طرابلس، وهو أمر مهم لهذه الدول لإلغاء الاتفاقيات الليبية التركية.