أوضحت دراسة لمعهد “كارنيجي” للشرق الأوسط أنه منذ سيطرة الجيش المصري على مقاليد السلطة في عام 2013م وما تلاه من صعود نجم الرئيس عبدالفتاح السيسي، تغيّر دور الجيش وتحول إلى طرف اقتصادي فاعل يحظى باستقلالية تمكّنه من إعادة تشكيل الأسواق والتأثير على سياسات الحكومة وإستراتيجيات الاستثمار بدلاً من دوره الأصلي في الدفاع عن مصر.
وأوضحت الدراسة التي أعدها الباحث يزيد صايغ، ونشرت 14 ديسمبر الجاري 2019، أن المؤسسة العسكرية المصرية باتت تُنفّذ مشاريع بنى تحتية كبرى، وتُنتج سلعاً استهلاكية تتراوح من المواد الغذائية إلى الأدوات المنزلية، وتصنع كيماويات صناعية ووسائل نقل، وتستورد سلعاً أساسية للأسواق المدنية.
وأن نشاط الجيش المصري المتغلغل في الاقتصاد يمتد إلى قطاعات جديدة بالغة التنوّع كالتنقيب عن الذهب، وإنتاج الصلب، وإدارة الأوقاف الدينية والحج.
وأوضحت الدراسة أن هذا التوغل المتزايد لبيزنس الجيش في الاقتصاد المصري يستفيد منه آلاف كبار الضباط المتقاعدين، من النفوذ السياسي الكاسح للمؤسسة العسكرية لاحتلال مناصب عليا في كل أرجاء الجهاز المدني للدولة وشركات القطاع العام، مُكملين بذلك دائرة الاقتصاد العسكري الرسمي، فيما ينتفعون في الوقت عينه.
ثمن البيزنس العسكري
وتشير الدراسة إلى أن الاقتصاد العسكري يقبض على حصة غير متناسبة من الإيرادات والموارد العامة التي كان يمكنها أن تذهب إلى مؤسسات الدولة والشركات الخاصة المنافسة، ويحوّل كميات هائلة من رأس مال الاستثمار عن قطاعات إنتاجية أخرى في الاقتصاد.
وتؤكد الدراسة أن ما تسميه تفاخر المؤسسة العسكرية بأنها حائزة على مهارات إدارية راقية وإنجازات تكنولوجية، وتدّعي أنها تعمل كرأس حربة للتنمية، له ثمن فادح يؤثر على الاقتصاد المصري ويهمش دور القطاع الخاص، كما أن نشاط الجيش الاقتصادي ليس عليه رقابة وقابل للفساد بالتالي، كما أنه معفي من الضرائب ما يضر اقتصاد الدولة.
وأن الطفرة الهائلة للمشاريع العملاقة في الإسكان والبنى التحتية العامة التي أدارتها الهيئات العسكرية منذ عام 2013م، أسفرت عن حجم كبير من الرساميل العقيمة والأصول المجمّدة، الأمر الذي حوّل الاستثمار والموارد بعيداً عن قطاعات اقتصادية أخرى.
وأشارت الدراسة إلى أن قدرة المؤسسة العسكرية على حجب أنشطتها باسم الأمن القومي قد فاقمت غموض المعلومات المتعلقة بالمعاملات المالية، في ظاهرة مشتركة مع العديد من مؤسسات الدولة في مصر، ما يفسّر تصنيف مصر السيئ في مؤشر مدركات الفساد لمنظمة الشفافية الدولية.
حيث انخفض ترتيب مصر إلى 117 من بين 180 دولة في عام 2017م (بعد أن كان 94 في عام 2014م).
إلا أن غياب الشفافية أدى دوراً مؤثراً في تطور الاقتصاد العسكري الجانح بشكل خاص فالقطاع الاقتصادي العسكري الرسمي قد يطلق ادّعاءات تتعلق بكفاءته مقارنةً بالمنافسين في القطاع المدني أو القطاع الخاص، لكن هذه الادّعاءات لا يمكن تأكيدها أو الطعن فيها بشكل مستقل كما أن غياب الشفافية قد أسهم في إحداث بيئة يمكن أن يجري فيها تداول داخلي وتحويل موارد الدولة وعمليات إجرامية.
وتطالب الدراسة بوضع اقتصاد الجيش المتعاظم تحت سلطة مدنية واضحة، هذا إذا ما أرادت مصر أن تحل مشكلاتها البنيوية الحادة والكأداء التي تعيق مسيرة تنميتها الاقتصادية والاجتماعية، وتقف سداً منيعاً في وجه الإنتاجية والاستثمار، وتقوّض ديناميكيات السوق، وتشوّه نمو القطاع الخاص.
حيث يرى يزيد صايغ أن المؤسسة العسكرية تدعي القيام بدور رأس حربة تنموية وتوليد الدخل للدولة والوظائف، لكن دورها يأتي بتكلفة عالية.
وتؤكد الدراسة أنه من المستحيل تقدير القيمة الصافية للاقتصاد العسكري تقديرًا كميًّا، والأرقام المتناقضة التي جرى تقديمها في أوقات مختلفة من قبل كلٍّ من وزير الدولة للإنتاج الحربي والمتحدث الرسمي باسم الوزارة عن المبيعات السنوية خلال الفترة من 2014-2017م، تظهر أنه حتى العسكريين يواجهون مشكلات في مسك دفاترهم.
وتشير إلى أن محاولة تحديد نسبة الاقتصاد المصري التي يسيطر عليها الجيش هي مثل ذرّ الرماد في العيون”، مشيرة للجهد الغريزي الذي تبذله المؤسسة العسكرية لتصون القدرة الإنتاجية للصناعة العسكرية المحليّة، وسعي كبار مسؤولي الدفاع لخدمة الأولويات والأهداف السياسية للرئيس، والنفع الذاتي للقبض على فرص الافتراس الاقتصادي التي فتحتها أمامهم المشاريع والسياسات التي تُقرّ على مستوى رفيع، في بيئة قانونية وبيروقراطية في غاية التساهل.
جمهورية الضباط
وتتحدث الدراسة عن “جمهورية الضباط”، وهي تضم شبكات الضباط الموجودين بشكل غير رسمي داخل جهاز الدولة المدني، فضلاً عن الشركات التي تملكها الدولة والهيئات الحكومية المنخرطة في توفير الأشغال العامة والبنية التحتية والخدمات العامة المختلفة وإدارة الموارد الطبيعية والتصنيع التجاري.
وتشير إلى أن عباءة الشرعية الاسمية التي يتمتع بها هؤلاء البيروقراطيون العسكريون، تمكّن من الممارسات النفعية من منح عقود والوصول إلى أراضي الدولة واستثمار الصناديق المالية خاصة بالقوات المسلحة، وتحميها.
وهنالك دائرة فرعية تتكون من ضباط تحولوا إلى رجال أعمال ومقاولين من الباطن لمشاريع تديرها المؤسسة العسكرية.
ويمكن وصف الأسلوب الأساسي للاقتصاد العسكري بالمُصادرة المؤسساتية أو التنظيمية، فهو يقبض على حصة غير متناسبة من الإيرادات والموارد العامة التي كان يمكنها أن تذهب إلى مؤسسات الدولة والشركات الخاصة المنافسة، ويحوّل كميات هائلة من رأس مال الاستثمار عن قطاعات إنتاجية أخرى في الاقتصاد
بيزنس الجيش يضعف الاقتصاد
بحسب دراسة معهد كارنيجي، يرى الباحث يزيد صايغ أن النشاط الاقتصادي الذي يمارسه الجيش عبر شبكة متنامية من الشركات سبب رئيس وراء التخلف البنيوي للاقتصاد المصري في المدى الطويل وعدم استفادته كما ينبغي من الإصلاحات الصعبة والمهمة التي حدثت في السنوات القليلة الماضية، وهي أول دراسة تقول معدلات بهذا الوضوح عن اقتصاد الجيش.
وفي الدراسة المطولة -360 صفحة باللغة الإنجليزية وتحليل عميق- قدم الباحث تشريحاً دقيقاً للاقتصاد المصري يؤكد أنه منذ 3 يوليو 2013م تحول دور الجيش إلى فاعل رئيس مستقل في الاقتصاد على عكس دوره الأصلي، مكنه من إعادة تشكيل الأسواق والتأثير على وضع السياسات الحكومية وإستراتيجيات الاستثمار، تبين حجم الإمبراطورية الاقتصادية العسكرية ومعدل توسعها المرعب.
وأشار إلى أن الارتفاع الهائل للمشروعات الضخمة للجيش في البنية التحتية العامة والإسكان الذي يديره الجيش منذ العام 2013م يولد مبالغ كبيرة من “رأس المال المعدوم” أصلاً والأصول العالقة، ويحول الاستثمار والموارد عن القطاعات الاقتصادية الأخرى.
وكانت دعوة السيسي أوائل نوفمبر 2019م لطرح شركات تابعة للقوات المسلحة في البورصة، أبرزت حجم هذا البيزنس العسكري مرة أخرى، وأعادت الحديث في الإعلام الأجنبي عن دور المؤسسة العسكرية في الاقتصاد المصري.